مواضيع الاسبوع

علوم التصحيح في اللغة دكتور احمد كروم

21.5.13

علم اللسانيات الحديث كما ورد عند الفارابي


ذهبت دراسة علمية حديثة إلى أن تأثر الدراسات اللسانية الحديثة في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية خاصة بالدراسات اللغوية العربية، والدراسات العربية النحوية والصوتية المتمثلة في علم التجويد، وعلم القراءات القرآنية، تبدو واضحة جداً، حيث أظهرتها كتب وبحوث غربية حديثة أبرزت دور الفارابي في كتابه «إحصاء العلوم» عندما توصل إلى هذا العلم، وهو غير مسبوق في هذا الإنجاز الثقافي.
وقال رئيس المجمع اللغوي الأردني الدكتور عبدالكريم خليفة في بحثه «قضايا اللغة العربية وعلم اللسانيات الحديث» الذي شارك به في فعاليات مؤتمر مجمع اللغة العربية في القاهرة إن الفارابي الفيلسوف يقرر أنه بصدد علم يبحث في أحد النواميس التي تحض الإنسان من حيث هو مخلوق بشري ناطق، فيقول: وعلم اللسان عند كل أمة ينقسم سبعة أجزاء عظمى: علم الألفاظ المفردة، وعلم الألفاظ المركبة، وعلم القوانين عندما تكون مفردة، وقوانين الألفاظ عندما تركب، وقوانين تصحيح الكتابة، وقوانين تصحيح القراءة، وقوانين الأشعار...»، ويتحدث الفارابي عن كل جزء من هذه الأجزاء العظمى، باعتبار كل منها علماً قائماً برأسه، ويتخذ من العربية منطلقاً فلسفياً لإنسانية هذا العلم، ومسرحاً لإعطاء الأمثلة.
ويرى خليفة أن الفارابي يُقدم علماً لسانياً أصيلاً ومبدعاً من خلال اللغة العربية، وأن المعلم الثاني لم يتوقف عند نقل الفكر الأفلاطوني والأرسطوطاليسي إلى العربية، ولكنه تحول «إلى مرحلة» الإبداع، فأضاف جديداً. وإن ما يهمنا هو «علم اللسان» الذي قدمه في كتابه المشهور «إحصاء العلوم» علماً إنسانياً، مثله مثل بقية العلوم التي تخضع للنواميس الكونية، عملية أو نظرية. يقول الفارابي: فعلم النحو في كل لسان إنما ينظر في ما يخص لسان تلك الأمة، وفي ما هو مشترك له ولغيره، لا من حيث هو مشترك، لكن من حيث هو موجود في لسانهم خصوصاً. ويقول صاعد الأندلس صاحب كتاب «طبقات الأمم» عن مكانة الفارابي المنطقي: له كتاب شريف في إحصاء العلوم والتصريف بأغراضها، لم يُسبق إليه، ولا ذهب أحد مذهبه فيه، ولا يستغنى طُلاب العلوم كلها عن الاهتداء به، وتقديم النظر فيه».
وإذا ما تتبعنا الخيوط التاريخية لمسيرة «إحصاء العلوم» خارج دار الإسلام – كما يقول الدكتور خليفة – نجد أن المصادر التي بين أيدينا تشير إلى أنه ترجم إلى اللغة اللاتينية غير مرة إبان القرن الثاني عشر الميلادي، وأن الترجمة المنسوبة إلى (Gerard de Cremona) ترجمة كاملة ودقيقة مطابقة للنص العربي للكتاب. وتشير المصادر إلى أن هذا المصنف دخل بريطانيا في القرن السادس عشر الميلادي، ومن الأهمية بمكان أن نشير إلى أن «علم اللسان» وجد طريقه إلى أوروبا من خلال كتاب «إحصاء العلوم» في وقت مبكر، سواء كان من طريق الترجمة إلى اللاتينية أو من طريق اللغة العبرية، إذ تشير المصادر أيضاً إلى أن كتب اليهود النحوية كُتبت بالعربية، واستخدمت مصطلحات النحو العربي، فيحدثنا صاعد الأندلس بأن أبا الفضل حسداي بن يوسف بن حسداي من ساكني مدينة سرقسطة، ومن بيت شرف اليهود في الأندلس، من ولد موسى النبي عليه السلام، عُني بالعلوم على مراتبها، وتناول المعارف من طرقها، فأحكم على حد تعبيره «علم لسان العرب» ونال حظاً جزيلاً من صناعة الشعر والبلاغة، وكان «إحصاء العلوم» للفارابي معروفاً في المدارس اليهودية، وتشير المصادر التي بين أيدينا إلى أن موسى بن عزرا انتفع به.
وربما تقودنا خيوط «اللغة العبرية» إلى إلقاء الضوء على مدى تأثير عالم اللسانيات المشهور في الوقت الحاضر، نعوم تشومسكي بنظرية الفارابي اللسانية، النحوية والصوتية العربية التراثية، متمثلة بمصنفات الخليل بن أحمد وسيبويه وابن جني وغيرهم. فيذكر العالم اللساني سامسون: أن أفرام نعوم تشومسكي، وكان والده من كبار علماء اللغة العبرية، ويواصل سامسون كلامه قائلاً: ويخبرنا تشومسكي أن خبرته خلال طفولته في تصحيح أحد كتب والده عن العبرية، كانت من المؤشرات التي أوحت له بأن اللسانيات قد تلائم ميوله الفكرية. وعلى مدى ما يقرب من ألفي عام، وبين انقراض العبرية الإنجيلية وظهور الحركة الصهيونية الحديثة، كانت العبرية لغة ميتة يتعلمها اليهود كما يتعلم الانكليزي اللاتينية، وفي مجال اللفظ وصوتيات اللغة يتابع سامسون: «ومما لا شك فيه أننا لا نلفظ اللاتينية بأصوات غريبة، مثلما كان يفعل الرومان، لكننا نلفظها بأصوات مستمدة من لغتنا الأم، وطوال القرون الماضية كانت الألمانية اللغة الأم لغالبية اليهود الأشكينازيين الذين شكلوا الحركة الصهيونية».
ويقول الدكتور خليفة: ونحن بدورنا سنكتفي بالإشارة إلى «الكليات اللغوية» وبالتحديد إلى «الكليات النحوية» التي تمثل على حد تعبير سامسون: جوهر منهج تشومسكي في دراسة اللغة، حيث طور فرضية الكليات النحوية حتى أصبحت نظرية أغنى وأعمق من نظرية ياكوبسون عن «الكليات الصوتية الوظيفية» وربما كان من الواضح بعد هذه الإشارات، أن نلمح في نسيج النظريات اللسانية في القرن العشرين خيوطاًَ لامعة ومهمة لنظرية «علم اللسان» العربي التي أرسى قواعدها فيلسوف الإسلام أبو نصر الفارابي في كتابه «إحصاء العلوم» في القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، ومن هنا كانت كليات تشومسكي النحوية واللغوية وليدة اجتهادات الفارابي ومتأثرة بها، ومُضيفة إليها، حتى إنه أفاد من كتابه «إحصاء العلوم» كثيراً!