مواضيع الاسبوع

علوم التصحيح في اللغة دكتور احمد كروم

حوار مع الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري

أسئلة اللغة أسئلة اللسانيات في الثقافة العربية 
حوار مع الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري
حاوره الدكتور حافيظ إسماعيلي علوي 
أستاذ اللسانيات/كلية الآداب - أكادير - المملكة المغربية

انفتحت الثقافة العربية على اللسانيات منذ أزيد من نصف قرن، ورغم ذلك ما زالت اللسانيات في ثقافتنا تكرر الأسئلة نفسها، وتطرح القضايا نفسها، وما زالت بعض أبجديات هذا العلم مغلوطة أو شبه مجهولة في سوق التداول، وهذا يجعل الحصيلة ضعيفة مقارنة مع ما ينجز في الغرب...، وفي السياق نفسه مازالت اللغة العربية أمام تحديات جمة، تجعلها في وضع لا تحسد عليه.
يحدث كل هذا في سياق دولي عولمي غير مسبوق ينذر بالابتلاء والابتلاع، حيث يتحدث الكل بنهم وهرج عن العولمة واقتصاد المعرفة، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات...
في هذا السياق يأتي هذا الحوار مع الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري، ضمن حوارات أخرى ، أجريناها مع مجموعة من المهتمين بالشأن اللساني في الثقافة العربية(من داخل المغرب ومن خارجه) لتقييم حصيلة البحث اللساني في الثقافة العربية، ومحاولة الإجابة عن بعض أسئلته الراهنة.

س : لقد أشار العالم الأنثروبولوجي كلود ليفي ستراوس إلى أن اللسانيات بفضل توجهها العلمي ستصبح جسرا تعبره كل العلوم الإنسانية الأخرى إن هي أرادت أن تحقق نصيبا من العلم. ولا أحد اليوم يستطيع أن يشكك في تحقق هذه النبوءة، ما الذي يجعل اللسانيات تشغل صدارة العلوم الإنسانية وتستأثر بكل هذا الاهتمام؟

ج- لا أحد يمكن أن يشكك اليوم في الدور الهام الذي تلعبه اللسانيات في ريادة مناهج البحث وإقامة أصول المعرفة، ليس في اللسانيات وحدها، بل في مجال ما أصبح يعرف بالعلوم المعرفية، وهذه الريادة أساسها الدقة والوضوح، وكذلك استعمال نماذج أكثر صورنة وذات أبعاد مفهومة على المستوى الرياضي والحاسوبي.إن أساس هذه المكانة هو تطوير النماذج الرياضية والحاسوبية والوضوح الابستمولوجي.اللسانيات اندمجت في عدد من العلوم البيولوجية أو النفسية أو الأنثروبولوجية إلخ، في محاولة جادة لوضع خريطة ابستمولوجية تجعل اللسانيات تتفاعل مع العلوم الأخرى.

س: في ظل هذا (المعطى)المعطيات، ما هو تقييمكم لحصيلة البحث اللساني في الثقافة العربية بعد مرور أكثر من نصف قرن على تعرف الثقافة العربية على البحث اللساني بمعناه الحديث؟

ج-إن عناصر التقييم الأولى تدعونا إلى القول إن المجهودات الأولى التي حاولت إدخال اللسانيات إلى الثقافة العربية والمعرفة العربية انحصرت في التركيز على هضم الكثير من المعطيات النظرية والمنهجية والنمذجية التي اعتبرت غريبة على الفكر العربي.
المشكل الأساسي هو طغيان الفكر التراثي، وعدم الخروج عن معطيات القدماء ومناهجهم، فالكثير من العناصر مازالت تحول دون تحقيق التجديد والثورة الضروريين. إن الأسباب الموضوعية التي تحول دون تحقيق نقلة نوعية يمكن أن نجملها فيما يلي:
- طغيان الفكر المحافظ في اللسانيات. إن التراث الغني بأفكاره وأدواته جعل من الصعب اقتراح بديل له على المستوى الإجرائي ومازلنا حبيسي معطيات القدماء ولم ندخل معطيات جديدة، ولم نلجأ إلى استعمال لسانيات المتون بطريقة عقلانية ومقبولة كما هو الحال في الثقافات الأخرى.نجد أيضا ما يمكن أن نسميه بتخلي اللغويين الحاسوبيين العرب عن اللسانيين. فهؤلاء يستعملون المعاجم القديمة ومعطيات النحو القديم في معالجاتهم.إن أصحاب الثورة الحاسوبية يلجأون إلى ما هو تراثي، ولا نجد عندهم توازنا بين البحث والصناعة كما هو الحال في الغرب؛ إذ يتم التركيز على ما هو حديث، وهذا على عكس ما نجده عندنا. فحتى أصحاب الثورة التكنولوجية لم يتخلوا عن الموروث، بحيث ظل ما هو حديث لصيق القديم.بالإضافة إلى هذا نجد تعثرا للبحث العلمي بصفة عامة، وعدم تكامل المعارف، زيادة على عوائق أخرى ترجع إلى كون البحث العلمي عندنا لا يساير الجديد. أضف إلى كل ما سبق عنصرا جديدا خاصا بالمغرب، ويتمثل فيما أصبح يعرف باللسانيات الاجتماعية، أو ما أفضل أن أسميه باللسانيات السياسية، لأن الهدف من توظيف اللسانيات في بعض القضايا المجتمعية هو التطلع إلى خدمة اللسانيات في مجال السياسة.بطبيعة الحال تبقى هذه اللسانيات سطحية، لأنها تهدف إلى خدمة النضال السياسي وتغيير وضع اللغات، وهذا ما أثر على وضع اللسانيات كعلم مجرد عن الاختيارات السياسية والإيديولوجية.

س: هذا التشخيص يلخص الوضع الحالي للدرس اللساني في ثقافتنا، وهو وضع نعتبره نتيجة طبيعية لملابسات التلقي، كما يفيد وجود عوامل خارجية، يمكن أن نعتبرها من قبيل العوامل المرتبطة بسوسيولوجيا العلم، لكن هذا لا ينفي وجود مبادئ داخلية للعلم اللساني لم تتحقق، أعني الشروط الضرورية لنشأة العلم وتطوره، ومن ذلك- بحسب بحث قمنا به في هذا المجال-غياب كتابة لسانية تمهيدية (تيسيرية) تقدم اللسانيات إلى القارئ المبتدئ بالشكل الصحيح، وعدم القدرة على مواكبة المستجدات اللسانية، ثم اعتبار اللسانيات من العلوم الكمالية...إضافة إلى أسباب أخرى سيأتي الحديث عنها.

ج- صحيح أن تشخيصا من هذا القبيل يغلب عليه الجانب الخارجي أو(العوائق الخارجية)، لكن هذا لا ينفي وجود جوانب أخرى (العوائق الداخلية)، ومنها ما أشرتم إليه في السؤال. ومن جملة هذا غياب مداخل مقنعة في اللسانيات على غرار ما نجده في الثقافات الأخرى، ومن مداخل تتجدد باستمرار وترصد وترسخ مفاهيم التقدم وتقنيات المعالجة. إن أمورا كهاته تكاد تكون شبه منعدمة، وقد حاولنا إيجاد مثل هذه المداخل لكن هذا الهدف لم يتحقق لمجموعة من العوامل العرضية التي تحكمت فيها حسابات شخصية بالدرجة الأولى، ومنها صعوبة مواكبة البحث، وأشير في هذا الصدد إلى أن من جملة العوائق التي تفسر هذا الضمور عدم وجود طلب في المجتمع أو الجامعة على هذه الأبحاث كما نجد في دول أخرى. وهذا يعني عدم وجود سياسة للبحث العلمي رغم ما يروج له في هذا الخصوص. على مستوى المواكبة دائما، نجد أن مواكبة في المستوى المطلوب تفرض وجود جودة وامتياز لمن يواكب كما هو الحال في الدول المتقدمة؛ حيث نجد رياضيين وحاسوبيين وعلماء نفس، إلخ.وهناك جانب تكامل المعارف، بالإضافة إلى الجانب الشخصي، ثم هناك مشكل آخر يتمثل في عدم توفر الوثائق، مما يطرح صعوبات جمة أمام الباحث، وهذا مشكل غير مطروح في ثقافات أخرى بحيث يمكن للباحث الحصول على ما يحتاجه بسهولة نسبية. إن ما هو في متناول الناس هناك غير متوفر عندنا، ومع ذلك هناك مجهودات محمودة لكنها تبقى مجهودات فردية محدودة للغاية مقارنة مع مخططات الدولة والمجتمع والأفراد في ثقافات أخرى.

س: واقع البحث اللساني العربي يتعارض مع القسمة العقلية التي تقتضي أن يكون هذا البحث رائدا؛ بالنظر إلى الإرث العربي الزاخر في هذا المجال، وهذا ما يجعل هذه المعادلة جد معقدة، بل وغير مفهومة؟

ج- بطبيعة الحال الإرث العربي الزاخر لا يجعل المعادلة معقدة، وإنما يجب أن نقر أن مشكل التراث والحاضر العربي يرجع بالأساس إلى عدم القدرة على إيجاد المراكمة، فالدول التي تستطيع أن تتقدم هي التي تستطيع أن تراكم، وهذه ثغرة في ثقافتنا العربية، فالعناية بتراثنا داخل أوساطنا هي من قبيل الإطراء والمجاملة وليست هناك دراسات عميقة تحاول قراءة هذا التراث وتوظيفه التوظيف المطلوب، وهذه خصوصية ثقافية. هذا هو الواقع، وكل ثقافة غير جادة تبقى ثقافة غير مواكبة.

س: يتخذ هذا الصراع مظهرا تلخصه المعادلة: النحو ≠ اللسانيات، التراث اللغوي العربي ≠ اللسانيات؟

ج- الصراع بين اللسانيات والتراث اللغوي العربي صراع زائف، وهو مظهر من مظاهر تخلف ثقافتنا، ينبغي ألا يكون هناك صراع بين وضع النحو والاشتغال في اللسانيات مثل هذا الصراع يرجع بالأساس إلى أسباب واهية ترتبط بأسباب سطحية وإجرائية. فهناك أناس يتقنون النحو القديم ولا يفقهون شيئا في اللسانيات الحديثة، وهناك أناس يتحدثون عن اللسانيات بسطحية وهذا ما يجعل العارفين بالقديم يتقوون، فيكون بذلك رفضهم مشروعا على الأقل شكليا، ثم هناك بالنسبة إلى التراث اللغوي واللسانيات سؤال يطرح بحدة: بماذا نبدأ؟ لقد سبق لي أن بينت أن أسئلة من هذا القبيل مغلوطة وزائفة، فالمشكل ليس هو بماذا نبدأ، ولكن المهم هو كيف نؤسس لمعرفة لسانية قائمة على أسس علمية متينة.

س: تواجه اللغة العربية مجموعة من التحديات في سياق دولي عولمي غير مسبوق ينذر بالابتلاء والابتلاع، حيث يتحدث الكل بنهم وهرج عن العولمة واقتصاد المعرفة، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فماذا أعد العرب للغتهم في هذا الصدد؟ وما هي أهم التحديات التي سيواجهونها في نظركم؟ وكيف يمكن مواجهتها؟

ج- بصدد ما تواجه العربية من تحديات، أشير إلى أن العرب لم يعدوا الكثير لهذه اللغة ، صحيح أن هناك نوايا طيبة، ولكن النوايا الطيبة وحدها لا تكفي؛ لأن هناك من يقف في وجه هذا عن طريق ممارسة ما يخالف هذه النوايا ويتعارض معها.لم يخطط لتجديد اللغة
العربية وتجديد معاجمها ومتونها ونصوصها وتدوين متونها، وإعادة النظر في هذه المواد وتطويعها وتطويع اللغة وقواعدها ومختلف أدواتها، لم يفعل الناس هذا، لأن مثل هذه المشاريع الكبرى في السياسة أو الاقتصاد لا توجد إلا على مستوى الكلام، أما على المستوى الممارسة فغير موجودة، ولذلك تبقى لغتنا تعاني ما تعاني.
إن أول مدخل أساسي لتطوير اللغة في الوقت الحاضر هو تطوير حوسبتها وإدخالها في
النقاشات اللسانية العامة كما نجد في كل اللغات التي تريد أن تتقدم.بطبيعة الحال هناك أيضا مجالات كالأنترنيت والترجمة الآلية والتعليم، إلخ.

س: ما هي متطلبات تقليص الفجوة الرقمية بين العربية واللغات المتقدمة معلوماتيا ؟

ج- تقليص الفجوة الرقمية أمر ممكن على مستوى المبدأ، ولكن اختيارات النخبة والمجتمع تجعل اللغة العربية تعاني من المشاكل التي ذكرت آنفا.

س: لماذا لا توجد اتجاهات أو تيارات أو مجموعات علمية تتخذ العربية موضوعا لنظرها في كل أبعادها ومستوياتها اللسانيات؟ ألأن العربية عربيات؟ عربية قديمة تراثية، وعربية مقدسة، وعربية وسطى هي المستعملة الآن في التداول المكتوب صحافة وفنا؟

ج- هذه الأشياء من المفروض أن تكون معالجة في أي برنامج من البرامج اللسانية يحاول أن يفرق بين سجلات اللغة إن صح التعبير أو مستوياتها أو تنوعاتها.مع الأسف هذه الأشياء عندما تناقش يكون ذلك من وجهة نظر سياسية، إن لم نقل"سياسوية"، تهدف إلى تعويض اللغة الفصحى بعامية أو بغيرها مما يجعل المشكل قائما باستمرار، لأن مشكل التنوع لم يطرح في عمقه ولكنه يطرح لحد الآن لأهداف قصيرة ومرحلية.
يجب أن ننظر إلى هذه الأشياء على أنها نشاط عادي يتعلق إما بالدراسة التاريخية أو الدراسة التنوعية للغات ولا يتعلق بالجانب السياسي المحض.وجود لغات تعنى بالجانب الإبداعي والتواصل القطاعي المكتوب وليس بلغة التواصل اليومي يجعل اللغة العربية
فعلا تفقد بعض وظائفها تدريجيا، ولكن هذا ليس مشكلا إذا كانت اللغة بالفعل قائمة كلغة للإنتاج الإبداعي أو التواصل العلمي.ما يطرح مشكلا هو التشكيك في قدرة اللغة على القيام بوظائفها أو جوانب من هذه الوظائف.

س: كيف يمكن للغة العربية أن تصبح فاعلة في محيطها؟ وما هي المشاكل التي تعترض سبيل المعالجة الآلية العربية؟

ج- أقول باختصار شديد لا بد من ثورة وإرادة سياسية قوية وإرادة من النخبة ومن المجتمع.

س: ما دور المجامع اللغوية في النهوض بالعربية على مستويات التنظير والممارسة؟

ج- إلى حد الآن يبقى هذا الدور محدودا بالنظر إلى مجموعة من العوائق، بعضها يرجع بالأساس إلى كون هذه المجامع عندما قامت في الدول العربية لم يفكر في الوظيفة الأساسية التي يجب أن تنهض بها. كما أن تأليف المجامع جاء محاكيا لما يوجد في فرنسا على وجه الخصوص، علما أن فرنسا فيها مراكز مهمة للبحث العلمي، وهذا لا يوجد ما يوازيه في الدول العربية. سن المجمعيين، وكذلك إمكانات المجامع تمثل عوائق أخرى تحول دون تقدم هذه المجامع وقيامها بمخططاتها. كما أن هذه المخططات لم يتم التركيز فيها على هدف محدد(لم يتم استيفاء الهدف كما يقال) هناك مثلا عدم قيام معجم عربي حديث يواكب التطورات، كما هو الحال بالنسبة إلى المعجم الوسيط الذي أنتجه المجمع العربي بالقاهرة، لكن السؤال الذي يطرح هو: هل هذا المعجم يواكب ويسد الثغرات فعلا؟ لا أريد أن أكرر هنا ما قلته في مناسبات أخرى.ولكن الجواب بالنفي.

س: لاحظ عالم اللسانيات روبنز أن معظم السمات التي تميز التاريخ المعاصر في الغرب قد نشأت في عصر النهضة، واستمرت دون انقطاع حتى الوقت الراهن، وأن الكثير من تلك السمات كان له تأثير مباشر في الاتجاهات التي اتخذتها الدراسات اللغوية فيما بعد. والواقع أن ما لاحظه روبنز بالنسبة إلى عصر النهضة في الغرب يمكن تعديته إلى عصر النهضة العربية وما صاحبه من ردود فعل كان للجانب اللغوي حظه الوافر منها.
فأسئلة النهضة حاضرة بشكل جلي في الفكر اللساني العربي، حيث يمكن أن نميز بين اتجاهات مختلفة: اتجاه طفري(حداثي)، واتجاه تراثي (تقليدي) واتجاه توفيقي، والأكثر من هذا أن هذه الاتجاهات تظهر أحيانا في الاتجاه الواحد. هذا ما حكم على الثقافة العربية عموما، واللسانيات خصوصا، باجترار قضايا هي في غنى عنها.نتساءل هنا: ما موقع الفكر العربي من الفكر اللساني الحديث؟ ثم ألم يحن الوقت بعد لتقييم هذه الحصيلة، والخروج من هذه الدوامة ؟


ج- يمكن أن أقول إن أسئلة النهضة حاضرة فعلا في الثقافة العربية إلى حد ما، ولكن ما يجب أن أشير إليه هو أن هناك أشياء أخرى مهمة جدا.إن ما أثر في الفكر اللساني في بعض الأقطار العربية هو حضور النزعة الفرنكفونية، وهذا أثر بشكل سلبي. ثم هناك جوانب في اللسانيات ربما لم تقنع أحدا وجعلت الكثير من الناس يعزفون عن دراستها، هذا علاوة عن جوانب أخرى تتعلق بالعناصر الإبستمولوجية والمعرفية التي لم تطرح في الفكر اللساني العربي بشكل أساسي وواضح، وهذا ما جعل اللسانيات العربية تتخلف، ثم هناك أيضا عدم وجود البيئة الملائمة لدراسة اللسانيات في العالم العربي، فجل الجامعات في الدول المتقدمة تتوفر فيها شعب للسانيات، وهذا لا نجده في الدول العربية. هناك شعب للغات والآداب، وفي المغرب كنا قد اقترحنا منذ الثمانينيات إنشاء شعبة للسانيات، لكن بعض الزملاء حاولوا أن ينقلوا الصراع السياسي إلى الجامعة؛ لأن وجود شعب للسانيات يعني من حيث المبدأ جميع اللغات، وأن تقع المقارنة بين اللغات، ويكون هناك بحث لساني مجرد عن القضايا الإجرائية واليومية التي يعاني منها المجتمع.

س: نجد اليوم شبه إجماع على ضعف العربية في مؤسسات التعليم في مختلف الأسلاك، وهو وضع ينذر بالكارثة، في ظل معطيات تفرض أن يكون الوضع معكوسا تماما؟ بم تشخصون هذه الظاهرة؟

ج- وضع اللغة العربية في التعليم راجع إلى السياسات اللغوية للدولة التي ترجع إلى ضغوطات بعض القوى الأجنبية والمصالح التجارية الأجنبية، فهذا شيء يمكن تغييره لو وجدت نخبة تعي بهذا الدور. هناك نخبة وجدت في بداية الاستقلال وإلى حدود السبعينيات تدافع عن اللغة العربية وتتبناها كمشروع مطلق أحيانا ولكن هذه النخبة تراجعت بشكل كبير عن مواقفها بين عشية وضحاها؛ والنخبة لا توظف مواقف عقلانية تبرر بها مواقفها، وهذا مستمر حتى الآن. النخبة تعيد وتكرر ما يقوله السيد كما يقال، وبالتالي فإننا نجد الكثير ما يروج الآن حول اللغة في المغرب واللغة العربية بصفة خاصة هو تكرار لمواقف السلطة الخفية منها، ونجد أشياء مضحكة/مبكية في الوقت نفسه في مواقف المثقفين والمسؤولين حول قضايا اللغة. وهذا يترجم أزمة حقيقية. بالإمكان أخذ المبادرة من النخبة السياسية أو الثقافية في تدبير شؤونها والاستقلال النسبي في التيارات والمصالح. فضعف اللغة العربية باختصار يرجع بالأساس إلى ضعف النخبة السياسية والثقافية والعلمية.

س: تبقى مساهمة اللسانيات العربية في اللسانيات العالمية محدودة جدا، ولا يكاد يذكر من اللسانيين العرب إلا من لهم كتابات باللغات الأجنبية. هل هذا الأمر تعتبرونه طبيعيا ولماذا؟

ج- إن القول بأن اللسانيات لم تساهم في قضايا الأمة غير صحيح. بطبيعة الحال، هناك نقاش كبير في قضايا التخطيط وفي قضايا التعدد وفي قضايا أخرى ساهمت فيها اللسانيات، ولكن المشكل الأساس هو أن اللسانيات ليست جسما واحدا، بل هناك أجسام مختلفة دخلت اللسانيات وميعت الكثير من القضايا، ودخلتها أنانيات كثيرة جعلت اللسانيات لا تصل إلى ما نصبو إليه جميعا.

س: يبدو أن التحديات التي تعترض سبيل اللسانيات العربية كبيرة، لكن ما يعمق من طبيعة الإشكال هو أن اللسانيات في ثقافتنا لم تستطع لحد الآن إيجاد حلول عملية لمشاكلها الخاصة، أشير في هذا السياق إلى بعض الإشكاليات التي ظلت تؤرق البحث اللساني العربي منذ زمن بعيد، كتلك المرتبطة بالمصطلح والتعريب؟

ج-هذه قضايا تطبيقية، على من يشتغل في هذا الجانب أن يفتي فيها، ولكن الكثير من الأشياء في هذه القضايا طرحت بطريقة مغلوطة فكان من الطبيعي أن يكون الجواب مغلوطا. وأرجع هذا إلى نقص في التكوين عند من يطرحون هذه القضايا، لأن القضايا اليوم شائكة ويجب أن تطرح بعمق. هذا يدعونا مرة أخرى إلى أن نقيم لسانيات في المستوى المطلوب، لسانيات حقيقية. يجب كذلك أن تكون رغبة للدولة في توظيف نتائج هذه اللسانيات، لأن هناك الكثير من الأمور التي عولجت، رغم أنها جهود فردية ومحدودة، ومع ذلك فإن الدولة والمجتمع والنخبة أيضا لا تستهلك هذه النتائج.

س: ماذا تقترحون بهذا الخصوص، من الناحية المنهجية تحديدا؟

ج-من الناحية المنهجية أقترح أن تكون هناك مبادرة وطنية للنهوض باللغة العربية وباللسانيات أيضا، مبادرة تجعلنا ننقد وضعنا اللغوي من التدهور والتسيب الذي يعانيه، لأن هذا في مصلحة شعبنا وفي مصلحة متعلمينا وفي مصلحة البحث العلمي الذي نعاني من ضموره ومن قصوره، ونعاني في جامعاتنا كذلك من ضعف الباحثين وضعف الجامعيين، وهذا شيء مخيف بالنسبة إلى مستقبل الأمة.

س:تبقى مساهمة اللسانيات العربية في اللسانيات العالمية محدودة جدا ولا يكاد يذكر من اللسانيين العرب إلا من لهم كتابات باللغات الأجنبية. هل تعتبرون هذا الأمر طبيعيا ولماذا؟

ج- مساهمة اللسانيات العربية في اللسانيات العالمية ليست محدودة إذا تحدثنا عن الأسماء العالمية التي ساهمت فيها أمثال John Brame وJohn Mccarthy في الفونولوجيا Joan Maling في العروض، وCharle Ferguson في السوسيولسانيات، وبوهاس وفريستيغ في التراث العربي، وغيرهم كثير ومن العرب أذكر محمد باكلا وحمزة المزيني وجواد باقر إلخ، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.

س: ما هي السبل الكفيلة في نظركم بإنجاح مشروع الإصلاح اللغوي العربي؟ نقصد تحديدا أهم القضايا التي يجب أن ترتكز عليها البحوث اللسانية العربية إن هي أرادت مسايرة الركب والانتقال من مرحلة الاستهلاك إلى مرحلة الإنتاج؟

ج-مشروع الإصلاح اللغوي العربي أجبت عنه سابقا. الإصلاح اللغوي يجب أن يمر عبر المشروع الثقافي للدولة وللنخبة وللمجتمع، وبدون هذا المشروع لا يمكن أن نتقدم، لأن العوائق ستظل قائمة بدون مجتمع ودولة ونخبة وراء لغتها لا يمكن أن نغير شيئا.
اللغات الآن في صراع؛ هناك لغات مهيمنة في كل ما هو علمي وتقني كاللغة الإنجليزية، وحتى يكون للغات الأخرى حضور لا بد أن يكون متكلموها في وضع دفاع مستمر عنها. فالعرب والمغاربة ضيعوا قضايا كثيرة ولم يدافعوا عنها وهم مهددون في وجودهم لأن لغتهم مهددة.

س: ما هي نصائحكم للسانيين الشباب؟

ج-لا بد للسانيين الشباب أن يتشبثوا بالمنهج العلمي والبحث العلمي وأن لا يخالجهم شك في أن هذه الثورة المعرفية والثورة العلمية هي المخرج الوحيد من التخلف والتدهور، وأن لهم مكانا في هذه الثورة. العولمة رغم عيوبها فرصة لجميع الشعوب لتساهم في الحضور على مستوى هاته القرية العالمية، وبالتالي يمكن لشبابنا وعلمائنا أن يلعبوا دورا هاما في هذه القاطرة التي يمكن أن تحول المجتمع من مجتمع جهل وتخلف وفقدان للقيم إلى مجتمع متشبث بهذه القيم.

س:وصفتم منذ سنوات ما يكتب في مجال اللسانيات في الثقافة العربية "بالخطاب اللساني الهزيل"، هل تغير موقفكم بهذا الخصوص بعد هذه المدة الطويلة؟

ج-عندما قلت إن ما يكتب في اللسانيات العربية هو من قبيل الخطاب اللساني الهزيل بطبيعة الحال كانت هناك مجهودات، ولكن هذا الحكم مازال قائما، بحيث لا نجد مواكبة في المستوى المطلوب لا في اللسانيات الحاسوبية ولا في اللسانيات التاريخية ولا في اللسانيات الوصفية ولا في لسانيات المتون. بدون قيام شعب للسانيات لا يمكن أن نتقدم في اللسانيات. أشرت سابقا إلى أننا قدمنا مقترحا خلال الثمانينيات إلى رئيس الجامعة، ثم أعدنا اقتراح ذلك بصفة رسمية بعد مبادرة الندوات الأولى في اللسانيات، لكن هذا المقترح لم يحظ بالقبول وهذا مؤشر في نظرنا على أن المسؤولين إلى يومنا هذا لم يستوعبوا بعد أهمية اللسانيات والبحث العلمي. فهم ينادون بالإصلاح والتجديد، لكن هذا الإصلاح والتجديد لا وجود له على أرض الواقع. اقترحنا كذلك كراسي للسانيات، ومنها كرسي للسانيات الحاسوبية العربية في اليونسكو، قبله أحد الوزراء ثم رفضه الوزير الذي جاء بعده، فهذه مقتضيات مأسسية ضرورية لا يمكن للسانيات في أقطارنا العربية أن تتقدم بدونها.

س:تعيش الجامعة المغربية اليوم على إيقاع الإصلاح. ما هو تقييمكم لهذه التجربة بعد مرور ثلاث سنوات على تطبيقها؟

ج-رغم أنني لا أحب أن أطلق الأحكام بسهولة، يجب أن نقر بأن الإصلاح فشل، وأن الأهداف المتوخاة منه لم تتحقق في جل أبعادها، إن لم نقل في كل أبعادها.
أحد المؤشرات الكبيرة بالنسبة إلي لتقييم نجاح هذا الإصلاح هي التقدم على مستوى البحث العلمي وعلى مستوى الموارد البشرية. فسواء على مستوى التعلم أو على مستوى البحث، أعتقد أن مغادرة مجموعة من الباحثين البارزين ومغادرة عدد من الأطر التربوية وفقدان كثير من الأطر الفاعلة مؤشر على ما أقول.هناك مؤشر آخر هو أنه لم يعد الآن الحماس والتطلع إلى البحث العلمي وطلب المعرفة، وانخفاض مؤشر القراءة والبحث العلمي، وغير ذلك. فهذه مؤشرات تفرض علينا الوقوف وقفة تأن ومراجعة لمحيطنا التعليمي بجميع أسلاكه.

س:عرف تعريب التعليم العالي نجاحا كبيرا في بعض الأقطار العربية، ما الذي يجعل هذه التجربة لا تعمم في باقي الأقطار العربية الأخرى؟

ج-تعريب التعليم العالي في بعض الأقطار العربية نجح إلى حد ما، ولا أقول إنه نجح بكيفية مطلقة. ما ينقص هذه التجربة هو تقوية اللغات الأجنبية التي يحتاجها الطلبة المتخرجون.بالنسبة للمغرب، للأسف ضيعت فرصة جعل التعليم العالي معربا. وباختبار الطلبة نجد أن التعليم الآن يعاني من أحادية منغلقة على الرغم من الشعارات.
فالأحادية الفرنكفونية تضيق على هذا التعليم وستقتله. الفرنكفونية التي تنخرنا مشكل أساسي حقا. إنها تضيع الفرصة حتى على الفرنسيين أنفسهم.

س:ما هي خلاصة تجربتكم في معهد التعريب؟

ج-إنها تجربة صعبة، فعندما التحقت بالمعهد وجدت مجموعة من الأطر أغلبها غير مؤهل، لكن رغم الصعوبات والترسبات الكثيرة فقد استطعنا أن نخلق جوا آخر وأن نضع أسسا أخرى وهيكلة جديدة وأحدثنا منابر جديدة: مجلة علمية بثلاث لغات(أبحاث لسانية)، ونشرة دورية، بالإضافة إلى مجموعة من الوقائع والمعاجم والأعمال الأخرى.بطبيعة الحال هذه المؤسسة مر عليها وقت وكان من المفروض إقامة البديل المتمثل في أكاديمية محمد السادس للغة العربية، لكن الدولة مرة أخرى تخل بالتزاماتها وتعطل هذه التجربة كما حدث مع تجارب أخرى، وبالتالي فإن الدولة مستمرة في السياسة الأحادية المرجع، والتي تكون على حساب المرجعيات العربية والإسلامية.

س:ما هي أهم مشاريعكم العلمية المستقبلية؟

ج-المشاريع العلمية المستقبلية كثيرة، لا أعرف ماذا أذكر منها، هذه المشاريع ستكون بحسب ما يسمح به الوقت، وهي مشاريع ستستثمر في مجال التركيب والدلالة والمعجم. إقامة معجم عربي جديد، ووضع أسس جديدة للمعجمية العربية، وإقامة عناصر لنحو عربي جديد، والهدف من كل ذلك إدماج اللغة العربية في المجتمع الدولي بصفة أكثر فعالية.

س:كيف تقيمون وضع اللسانيات في المغرب اليوم؟

ج-وضع اللسانيات في المغرب اليوم يحتاج إلى تأهيل على مستوى المأسسة؛ وتأهيل الباحثين الشباب بصفة مستمرة. إن الإنتاج المغربي النوعي قليل، لذلك نحتاج إلى تكوين جديد يأخذ بعين الاعتبار تكامل المعارف وتداخلها، كما نحتاج إلى إبعاد الصراعات الضيقة التي لا تخدم البحث العلمي في شيء.

0 التعليقات:

إرسال تعليق