مواضيع الاسبوع

علوم التصحيح في اللغة دكتور احمد كروم

26.4.13

اللسانيات العربية ودورها في التنمية العلمية والثقافية


لقد ارتبط مفهوم التنمية بالمجال الاقتصادي والاجتماعي، لكنه ومع تطور الحياة الثقافية للإنسان أصبح هذا المفهوم يشمل قطاعات أخرى بأبعادها المختلفة فأصبح يشمل حتى الدراسات اللسانية والتاريخ الثقافي والمعرفي بشكل عام. 
لقد ساهمت مجموعة من العوامل بشكل مباشر أو غير مباشر في تطوير الدراسات اللسانية على الرغم من أن الطابع الشفهي للثقافة العربية كان الغالب منذ قرون مما همش ثقافة المكتوب بشكل واضح ولو أن اللغة العربية كانت عرفت بالكتابة النبطية في أول الأمر، أما استعمالها كان ضيقا جدا إلى أن جاء الإسلام ومعه ضرورة التدوين والتوثيق والحفظ والتلقين فتحولت الكتابة العربية إلى تعدد نتج من خلال الحاجة الملحة في استعمال لغات بعض القبائل التي شكلت أهم رافد لغوي للنصوص الدينية سواء كان الكتاب المقدس "القرآن" أو "الحديث النبوي" وغيره..هذا كله دعم بشكل ملموس وواضح اللغة العربية المعيار والتي عمادها لغة قبيلة قريش التي أصبحت فيما بعد لغة الحضارة بامتياز في العصر الوسيط.
إن هذا التطور الذي شهدته اللغة العربية كلغة رسمية للثقافة والعلوم فيما بعد شكل الأبعاد والخلفيات الجديدة للثقافة عالمياً وقارياً وقطرياً. نفس ما شهدته اللغة السنسكريتية واللغة اليونانية واللغة اللاتينية واللغات الأوروبية المعاصرة لكن بدرجات مختلفة، غير أن اللغة العربية صمدت حتى القرن التاسع عشر الميلادي مع عصر النهضة كلغة معاصرة بعد جمود وثبات طال قرون عديدة. وما جعل هذا الصمود باقٍ هو الوفرة الكبيرة والإنتاج الغزير للنحاة واللغويين المتقدمين والمتأخرين أيضاً، وخاصة مع عصور الاحتجاج اللغوي إذ كان علماء اللغة يصولون ويجولون في القرى والقبائل لجمع وتدوين المتن اللغوي المناسب لتمثيل الكفاية اللغوية ودراسته لاتقاء الأجود والسليم غير اللاحن من أجل وضع القواعد والمعاجم والقواميس الجامعة للغة. نفس الأمر حصل مع علماء الموسوعات في فرنسا مثلا خلال القرن الثامن عشر واللذين حاولوا تدوين مفردات المهن التي بزغت إبان عصر الثورة الصناعية. 
كل هذه الحركات التطويرية في اللغات العالمية لم تكن فقط بدافع من ذاتها بل وقعها في تنمية المعرفة والثقافة كان أكبر بكثير لتشمل التنمية المندمجة في مختلف القطاعات، وهذا ما عرفته الحضارة العربية في عهد المامون (القرن التاسع) حينما قام بإنشاء "بيت الحكمة" من أجل ترجمة ونقل عصارة ما أبدعه الفرس واليونان والسريان، نفس الشأن شهدته الحضارة الأوروبية حينما ترجمت أجود النصوص الفلسفية والعلمية العربية واليونانية التي شكلت أسس التقدم العلمي والفكري والتقني المعاصر. 
وما تجدر ملاحظته هو أن مجهودات العرب في عصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر لم تكلل بالنجاح كما حصل الأمر في الماضي وهذه إشكالية ظلت مطروحة إلى حد الآن ولم تجد حلا أو بالأحرى جواباً شافياً، غير أن المفارقة تكمن في أن المعرفة المترجمة سواء من قبل العرب أو من قبل الغرب على التوالي، أصبحت معرفة محصورة من حيث المتون المعتمدة في الاستغلال المعرفي والعلمي، في حين كان لابد من تجاوزه واعتماد أساليب أخرى تتمثل في النقل التكنولوجي والمعرفي والعلمي، وهذا كذلك عمل ضخم يتعدى بكثير مقدرة العرب على المواكبة والاطلاع. علاوة على ما خلفته الحقبة الاستعمارية وخاصة منها الفرنسية والانجليزية من أثر كبير على اللغة العربية وعلى الترجمة من وإليها كما كان الشأن سابقاً.أو حتى نهج القطيعة اللغوية مع الغرب كما حصل مع الهند والصين واليابان وكوريا مما لم يكن له تأثير مباشر على الهوية اللغوية الوطنية التي استقلت فعلا من براثين الهيمنة اللغوية الإفرنجية. 
أما في القرن العشرين فقد نشأ نقاش حاد بين المدافعين عن اللغة العربية الفصحى وعن المؤيدين للعاميات العربية (المفرنسين منهم ومزدوجي اللغة) الذين يعتقدون أن تلك العاميات يمكنها أن تتطور كما تطورت مثيلاتها في أوروبا وتفرعت عن اللغة اللاتينية وأصبحت لغات وطنية مستقلة الذات.وهذا إن عن وعي أو عن غير وعي كان بدافع إيديولوجي سياسي يرمي من ورائه إلى تهميش النظرية الصائبة في معالجة قضايا اللغة العربية بشكل علمي وعقلاني سليم يكون في خدمة التنمية العلمية والهوية الثقافية بشكل ملموس. وكما يؤكد بعض الدارسين اللغويين في العالم العربي، أمثال الطيب البكوش وعبد القادر الفاسي الفهري وغيرهم، أن علاقة العامية بالفصحى تحتاج إلى رؤية شمولية تهدف إلى اعتبار اللغة العربية لغات عربية بصيغة الجمع ولأنها في الحقيقة تنوع لمدونة واحدة. مما يؤكد على أن التنمية الحقيقية للدراسات اللغوية ، إذا أرادت أن تكون هادفة ورامية إلى لعب دور القاطرة في التنمية العلمية والثقافية، لابد لها أن تتعامل مع جميع المكونات اللغوية الجزئية في إطار مبني على التكافؤ وليس على مبدأ الإقصاء والتهميش والتحجر في الرؤيا، مما يحول دون منح الهوية الثقافية حقها ودورها في التنمية الشمولية المندمجة التي قوامها التفاعل والمثاقفة الايجابيتين. هذا كله لن يتأتى في غياب معجم تاريخي للغة العربية وأيضاً في غياب دراسات علمية عقلانية للعاميات العربية.
إن بناء المعجم التاريخي للغة العربية مع تهيئة لغوية شاملة للعاميات المحلية واللغات الأجنبية سيكون له الوقع الكبير في بلورة رؤية كاملة في تتبع الخيوط التي تربط بين سائر هذه المكونات المعرفية، وستكون لا محالة قواماً وأُسًا متيناً ومعياراً واضحاً لتجاوز الجدالات الإيديولوجية وإرساء المقاربات العلمية الملائمة لمعالجة قضايا اللغة العربية بشتى مستوياتها، وتطويعها تكنولوجيا حتى تكون في خدمة التنمية البشرية بمكوناتها الاجتماعية والتربوية والنفسية والعلمية.
وفي هذا المضمار كرست في العالم العربي جهود كبيرة لعلماء ودارسين وباحثين أفرادا وجماعات أشغالها ومشاريعها العلمية سواء في إطار مجامع اللغة العربية والمؤسسات الرسمية أوفي إطار الجمعيات العلمية واللغوية، وانصبت برامجها على بلورة رؤية جديدة في معالجة قضايا اللغة العربية العلمية. ونذكر على سبيل المثال لا الحصر ما قام به العلماء في تونس أمثال صلاح قرمدي من خلال عملهم الضخم "أطلس اللسانيات" ضمن برامج عمل الجمعية التونسية للسانيات التي تروم وصف اللغة العامية التونسية وجعلها في خدمة التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ولهذا المنجز بعد استراتيجي يتمثل في إضفاء أواصر العلاقة بين مراحل التطور اللغوي مما يضمن المسار الواقعي للعمل الذي يوضح بجلاء تام نطاق الهوية التونسية التي تحفظ علاقة الفرد بلغته الأم وبهويته الثقافية الأصيلة، كما يبقى هذا العمل في خدمة اللغويين والتربيويين والمتخصصين في الاثنولوجيا والجغرافيا والسوسيولوجيا والزراعة والصناعة. وهناك تجارب أخرى تصب في صميم التنمية العلمية والمعرفية والثقافية للإنسان العربي تتعلق بتكنولوجيا اللغة العربية ودور ذلك في تطوير التعليم والتوثيق والإدارة والتجارة والصناعة والإعلام والترجمة الآلية والمحركات البحث والبحث عن المعلومات وكل ذلك هدفه تشجيع المحتوى العربي على مستوى الشابكة حتى تنافس المحتويات الأجنبية المسيطرة. و نتيجة لهذه القدرات الذكية، بدأ الحاسوب يقتحم العديد من التطبيقات العملية مما يتصل بالاقتصاد و الثقافة و الاجتماع و الخدمات و غيرها، إلى درجة يستحيل معها أن تخلو منه اليوم مؤسسة أو مكتب أو منزل في الدول المتقدمة صناعيا و تكنولوجيا، و ازدادت بشكل ملفت للنظر أهمية تكنولوجيا المعلومات المتقدمة التي تشمل كل ما يتعلق بالمعلومات على اختلاف أنواعها، و مصادرها، و تجميع المعلومات، و استقبالها، و تصنيعها، و ترتيبها، و تحليلها، و معالجتها، و تخزينها، و بعد ذلك استخراجها و استرجاعها، و بالتالي إبرازها بشكل واضح حسب الحاجة الداعية لذلك، بسرعة أكثر، و تكلفة أقل، حتى كثر الحديث عن عصر المعلومات أو ثورة المعلومات أو الثورة الرقمية .... لقد حظيت مسألة إدخال اللغة العربية إلى الحاسوب أو تعريب الحاسوب، منذ أوائل السبعينيات، باهتمام العديد من الخبراء والمهتمين بالتقانة والمعلوميات والإلكترونيات وكذا اللسانيات في مختلف بلدان الوطن العربي، بالإضافة إلى العديد من الشركات والمؤسسات الأجنبية، بغرض تمكين الحاسوب من التعامل مع اللغة العربية، إلى درجة يصبح معها قادرا على التعامل مع الحرف العربي باعتباره مدخلات ومخرجات ومعالجات. وهذه المحاولات هي على سبيل المثال لا الحصر : تجربة شركات المعلوميات والإلكترونيات والبرمجيات العربية و تجربة بناء المعاجم الآلية للغة العربية ومحركات البحث والمحللات الصرفية والتركيبية والمعالجات الاعرابية والتعرف الآلي على الكلام وتوليفه مع محمد الحناش ويحيى هلال وعلال فداغ.. و تجربة المعجمي عبد الغني أبو العزم من الغني إلى الغني/ الشامل وتجربة المرحوم بوجمعة الاخظر غزال في نظام (العممشع) وتجربة نبيل علي وقواعد المعارف المعجمية للعربية و تجربة الحاج صالح أو ما يسمى بمشروع الذخيرة اللغوية العربية وتجارب أخرى مرت واندرجت في إطار تعريب الحاسوب كخدمات الإدخال والإخراج بالحرف العربي وتعريب التطبيقات الحاسوبية أو البرمجيات عن طريق لغات برمجة تعتمد اللغة العربية أساسا أو برمجيات خدمات و تطوير تشغيلها بالحرف العربي، اعتمادا على محيط تقني يأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات الثقافية والبيداغوجية والحضارية للأمة العربية. ثم تعريب نظم تشغيل الحواسيب حسب أحجامها المختلفة.ومهما يكن من أمر، فإن هذه المحاولات لم ترقى إلى المستوى المطلوب في الحالة التي نقارنها بالمنجزات المحققة في لغات أخرى كالإنجليزية والفرنسية والإسبانية وغيرها من اللغات، والسبب يرجع إلى عجزها عن تعريب معظم التطبيقات المستجدة في تكنولوجيا المعلومات ومواكبة ذلك،سيما وأن هذه التطبيقات تعتمد أساساً على التحليلات اللسانية الآلية.أضف إلى هذا أن البحوث العربية المندرجة ضمن مجال الهندسة اللغوية العربية والمعالجة الآلية للغة العربية تعتبر قليلة ولا تغطي جميع مستويات نظام الكفاية للغة العربية. 

6.4.13

اللسانيات ودورها في النشأة التعليمية



لعبت اللسانيات بتخصصاتها المختلفة منها ، اللسانيات العامة واللسانيات التطبيقية خاصة، أدوارا أساسية في نشأة التعليمية، حيث استفاد هذا التخصص استفادة جمة من التراث النظري المعرفي اللغوي الذي جاء به فردينا ند دي سوسير(المدرسة البنيوية) ون. شومسكي (المدرسة التوليدية التحويلية) وبلوم فيلد Blemfield (المدرسة التوزيعية)وما قدمته المدرسة الإنجليزية (فيرت )Firth (ومايكل هاليداي) M. Hallyday ( وبيل هايمس )Bell Hyms
(بشير ابريل، 2002 ص47)حيث أضفت هذه المدارس اللغوية نظرة جديدة في وصف نظام اللغة في مستوياته الصوتية ، والمعجمية ,والدلالية وبروز نظريات لغوية حديثة مفسرة لطبيعة النظام اللغوي وكيفية اكتسابه من قبل الطفل منذلادته إلى بلوغه مرحلة الرشد .

(دوغلاس براون ، 19 ص) كما ساهمت اللسانيات عبر أفكارها الجديدة في إعادة بناء البرامج واختيار المحتوى اللغوي المناسب لكل مرحلة عمرية من التعلم ذلك أن "تجديد تلك الأبنية ووحداتها وما يربط بينها من علائق متنوعة من شأنه أن يعين المتعلم على معالجة المواد اللغوية المدرسة، معالجة تربوية بيداغوجية يراعي فيها التدرج منالبسيط إلى المعقد ، والانتقال من الشبيه إلى الشبيه به،ومن المقابل إلى المقابل له، وهو ما سيساعد على ترسيخ المعلومات في أذهان المتعلمين و ييسر لهم عملية استحضارها كلما شعروا بالحاجة إليها  (بشير ابرير ،2002.ص47).


كما ساعد الوصف الدقيق لبنية النظام اللغوي المتوصل إليه من قبل اللسانيات ، تعليمية اللغات في إدراج هذه الأخيرة التمارين البنيوية التي تعتمد على مفاهيم التقابل
(Opposition) والتشابه (L’analogie) و الإختلاف (le contraste) في فهم البنية العامة للغة ومعانيها والذي استغلته التعليمية في أبحاثها .


ومن بين هذا التأثير أيضا، إعادة الاعتبار إلى اللغة المنطوقة
(la langue orale) (بشير ابرير 2002.ص47) وذلك للعلاقة الوطيدة التي تربط الإتقان الجيد لنطق أصوات اللغة منفصلة عن بعضها البعض أو في بنية الكلمة وبين الرسم الجيد والصحيح للحروف والكلمات المستقلة بذاتها أو في المتصل من الكلام .


فبعدما كان التدريس يهتم بتعليم اللغة المكتوبة فيما مضى، فقد أصبحت التعليمية في الوقت الراهن نهتم بتعليم اللغة في بعديها: المنطوق والمكتوب سعيا وراء ذلك إلى التحصيل الجيد للغة واتقانها.


كما ساهمت معظم المدارس اللسانية في اتخاذ الجملة بدل الكلمة كوحدة أساسية في دراسة اللغة، ناهيك عن تكوين الأرصدة اللغوية الأساسية التي يحتاج  إليها المتعلمون في قضاء حوائجهم وشؤون حياتهم.


(بشير ابرير،2002،ص48)ومن بين المفاهيم اللسانية، مفهوم الملكة أوالقدرة اللغوية (la compétence linguistique) والتي يقابلها مفهوم الأداء اللغوي (la performance linguistique) اللذان جاء بهما ن. شو مسكي واللتان استغلتا بشكل واسع -فيما بعد -من قبل التعليمية في بناء استراتيجيات جديدة فيما يخص طرق تدريس اللغة وتحسين بيداغوجيتها.


أما أصحاب  النظريات الاجتماعية التواصلية فقد جلبوا اهتمام التعليميين بمدى أهمية الجانب الإجتماعي الوظيفي للغة وضرورة التركيز على الملكة التبليغية التواصلية 
(la compétence (communicative والتي تبقى الهدف الأسمى من تعليم اللغة ، ذلك أن أصحاب هذه النظريات لايهتمون بتعليم النظام الصوتي والصرفي والنحوي للغة فقط،بل أن الأمر يتعدى ذلك للتعرف على التوظيف الجيد لمعاييرها و قواعدها حسب  لقواعد الاجتماعية وسياقاتها واستعمالها  وفق مقتضيات الأحوال المتنوعة. بمعنى آخر، توظيف اللغة حسب مقولة لكل مقام مقال.


بالإضافة إلى هذا كله، فقد ساعدت اللسانيات التعليمية في بناء منهجيتها البحثية، وذلك باستغلال هذه الأخيرة البعدين : المحوري، والتسلسلي 
(Diachronique et synchronique) في وصف الأخطاء وتبويبها حسب أنواع الخطأ وحدته مما سمح لها التعرف بسهولة على نوع الخطأ وسيرورته، وأسبابه، وبالتالي مساعدة المتعلمين على تجاوزه، سواء كان الخطأ في اللغة المنطوقة، أو المكتوبة، وذلك من خلال التطبيقات المدرسة.


استخلاصا لما سبق ذكره،يمكن القول أن اللسانيات في جانبيها: النظري والتطبيقي،قد مهد ت للتعليمية" تعليمية اللغات أرضية خصبة لتطوير منهجيتها، كما فتحت لها أفاقا جديدة للنظر إلى مشكلات التعليم والتعلم من زوايا عديدة،
هذا ما أدى –فيما بعد- إلى انفصال اللسانيات التطبيقية عن اللسانيات العامة عام **19 ، كما انفصلت تعليمية اللغات بدورها عن اللسانيات التطبيقية1957، وذلك بعد أن بنت تعليمية اللغات لنفسها موضوعا، ومنهجا، ومفاهيما بصورة متميزة تفردت بها تعليمية اللغات عن غيرها من العلوم .ا