مواضيع الاسبوع

علوم التصحيح في اللغة دكتور احمد كروم

23.4.15

قضايا لسانية معاصرة : حوار مع الدكتور محمد المدلاوي

تحتل المعرفة اللسانية موقعا بارزا ضمن خريطة المعارف المعاصرة و بالرغم من حداثة هذا العلم فإنه استطاع أن يخطو خطوات جادة من أجل إرساء معالم معرفة عالمة بظواهر تتقاطع فيها أبعاد متعددة يتشابك فيها ما هو لغوي بما هو اجتماعي ومؤسساتي.
تمتلك اللسانيات وضعية خاصة في دائرة المعارف الإنسانية فمجالاتها متحولة باستمرار وآليات إنتاج المعرفة فيها متجددة وعلائقها بالعلوم الأخرى غير قارة . وللمعرفة اللسانية ملامح يصعب تحديدها أحيانا في غياب منظور تاريخي يقوم هذا المسار وفي غياب تصورات واضحة عن خصائص هذا العلم وعن أنماط تأصيله وعن أدواره ووظائفه . يحتاج الباحث في تاريخ اللسانيات العربية أن يشكل في البداية هذه الأرضية المعيارية لبناء تمثل تاريخي سليم لمسار الوعي اللساني العربي.
ووعيا بهده القضايا والإشكالات المطروحة يسعى هذا الحوار رفقة الأستاذ الدكتور محمد المدلاوي إلى الاقتراب من مجالات يتداخل فيها تقويم مسار العلم بمسألة تحديد العوائق المعرفية والمؤسساتية المعرقلة لتشييده وتأصيله فضلا عن قضايا أخرى تمس الوضع اللغوي والمواطنة اللغوية والتدبير المؤسساتي للتعدد اللغوي بالمغرب وهي مسائل تدخل ضمن دائرة انشغالات الأستاذ المدلاوي المتعددة والتي لها أسماء  وعناوين مختلفة : معالجة مسألة الهوية المركبة،  الرأسمال اللغوي  وأشكال عقلنته وتدبيره في مجتمع يصبو نحو الحداثة والديموقراطية، المواطنة اللغوية في زمن عولمة يدفعنا إلى إعادة صياغة جديدة لمسألة الهوية اللغوية وسبل بنائها في مجالات تحتاج بدورها إلى إعادة إصلاح وتنظيم : المجال التربوي  والإعلامي ... ولهذا التعدد في الانشغالات فضائله ولعل أبرزها الإبانة عن حاجتنا إلى مثقف منخرط في أسئلة الشأن العام لا يترك مآل صياغة الحلول والإجابات لثقافة التدبير المقاولاتي التي تتزيى  بلبوس مقولات تصوغها حاجيات العولمة وقناعاتها.

س:   لقد أشار العالم الأنثربولوجي كلود ليفي ستراوس إلى أن اللسانيات بفضل توجهها العلمي ستصبح جسرا تعبره كل العلوم الإنسانية الأخرى إن هي أرادت أن تحقق نصيبا من العلم، هل تعتقدون أن نبوءة ليفي ستراوس قد تحققت اليوم، وما هي أوجه الاتصال والانفصال بين التفكير اللغوي القديم ونظيره الحديث؟
ج:    لا أعتقد أن من يتحلى بقدر من الموضوعية يستطيع أن يشكك اليوم في مثل هذه التعميمات، ولا أقول النبوءات، بالنظر إلى المكانة التي تحتلها منهجية اللسانيات اليوم بالنسبة إلى العلوم الإنسانية، وإلى الإنجازات الكبيرة التي حققها هذا العلم في باب موضوعه الذي هو اللغة، وفي باب المنهج على الخصوص. إنها إنجازات لم تأت من فراغ، بل كانت نتيجة تراكمات ساهمت فيها أقوام وحضارات من جنسيات مختلفة من خلال مختلف تجليات علم اللغة، باعتبار الجوهر، وبقطع النظر عن لفظ التسميات. من هنا يمكننا القول إن اللسانيات هي علم قديم وحديث في الوقت نفسه. إن المشكل يكون أحيانا مجرد مشكل تسميات توهِمُنا أحيانا أن هذا العلم قديم، أو أن ذاك العلم حديث. أشير هنا مثلا إلى أن "العربية" كانت تسمى "اللسان العربي"، ثم " اللغة العربية"، ولا يعني ذلك وجود اختلاف في مرجعية التسمية. كما أن كثيرا من الرؤى العلمية المحمولة اليوم على اللسانيات الحديثة قد تم التوصل إليها في إطار تقاليد دراسات لغوية موزعة ما بين ما كان يسمى نحوا أو صرفا أو بلاغة. كما أن الاهتمام باللغة لم يكن مقصورا على اللغويين وحدهم. فقد طرق الفلاسفة والمناطقة القدماء أبواب اللغة؛ كما أن قضايا اللغة حاضرة في أعمال فلاسفة معاصرين، وتعبر عن ذلك بكل وضوح الكثير من كتابات الدكتور محمد عابد الجابري.
أعود إذن، مرة أخرى لأقول إن الوجه الحديث لعلم اللغة إنما يكمن في إعادة صياغة الأسئلة التي كانت مطروحة من قبل، وذلك ما يحصل في كل مجالات تطور العلوم. من هذا المنطلق، يكون الجديد بالنسبة إلى اللسانيات المعاصرة قائما على هذا المستوى. فإذا بحثنا في اللسانيات التوليدية مثلا نجد أن شومسكي انطلق من سؤالين رئيسيين:
1- كيف يمكن للكائن البشري أن يحصّل في سنواته الخمس الأولى نظاماً معرفيا معقدا هو نحوُ لغته وصرفُها وكافةُ أوجه بنائها واشتغالها، وذلك اعتمادا على مجرد احتكاك سمعي منه بجمل متقطعة من تلك اللغة يغلب عليها الحذف في الحديث اليومي اعتمادا على المقام، كل ذلك بشكل غير منهجي وبغير أي بيداغوجيا.
2- بماذا يمكن أن تساهم دراسة الملكة اللغوية في فهم طبيعة المعرفة البشرية؟
إن هذا يعني باختصار أن الذهن الإنساني مسلح باستعدادات فطرية. فكما يولد الإنسان باستعداد لممارسة المشي مثلا، وباستعداد لبلوغ البلوغ الجنسي، بحيث يكون كل من ذينك الاستعدادين مضمنا في البرنامج الجيني للكائن  ويتفتق ويتحقق عندما توفر بعض الشروط الخارجية المعينة (تغذية، الخ) بحيث إن هذا الكائن لا "يخطئ" مثلا فيطير بدل أن يمشي، أو "ينسى" فلا يبلغ الحلم الجنسي، فكذلك يولد الفرد مجهزا في برنامجه الجيني العصبي بــملكة لغوية عامة لا تنتظر إلا بعض الشروط الخارجية لتتفتق وتتحقق على لغة خاصة (عربية، يابانية، إنجليزية، الخ). وفرضية اللسانيات التوليدية المعاصرة هي أن تلك الملكة اللغوية العامة المشتركة يمكن صياغتها صياغة صورية تجريدية -بقطع النظر عن وجه برمجتها الفيزيولوجية الدماغية التي تتناولها علوم أخرى– وذلك على شكل جوامع وكليات لغوية كالقول مثلا بامتناع عودة الضمير على ما بعده، أو القول بأن الاسم المعين لا يمكن أن يكون فاعلا ومفعولا نحويا في الوقت نفسه. وجماع تلك الجوامع هي ما يسمى بــالنحو الكلي، وهو ما تسعى اللسانيات الحديثة الكشف عن أوجه صياغته الصورية الممكنة.
س:   يبدو أن الثقافة العربية لم تستثمر منجزات الدرس اللساني بالشكل المطلوب، والأكثر من هذا أنها غير قادرة على مواكبة المستجدات اللسانية.
ج:   مشكل مواكبة مستجدات البحث اللساني وما يطرحه من صعوبات في العالم العربي، لا يختلف عن المشاكل المطروحة فيما يتعلق بمواكبة مستجدات البحث العلمي في سائر الميادين الأخرى. فالمسألة هي مسألة وجود سوق للبحث تندرج وتنخرط في آلية الرواج والتبادل في ميدان إنتاج المعرفة وطلبها واستهلاك منافعها الإنتاجية والتدبيرية. إن هذه السوق غير موجودة لدينا بقدر من الاستقلالية يسمح بشروط الحياة والنمو. وهذا على عكس ما نجده في البلاد المتقدمة؛ فأي علم من العلوم نجد له هناك مؤسسات إنتاج تساعد على ترويجه ليس على مستوى الإنتاج فقط، بل على مستوى الاستهلاك والطلب أيضا. كما أن دوائر المعرفة في فضاء الثفافة العربية الحالية تنعدم فيها شروط تكامل الاختصاصات وتداخلها مما هو ضروري لاكتمال الدورة العلمية، ولاستقلالية الأسئلة العلمية وأصالتها. واللسانيات معرضة أكثر من غيرها لاهتزاز الوضعية بسبب انتفاء مثل تلك الشروط بالنسبة إليها. إن أي علم من العلوم سواء أكان رياضيا، أم فيزيائيا، أم لغويا، هو في حاجة إلى مؤسسات للإنتاج، وأخرى للاستهلاك والطلب؛ كما أن مجالات البحث نفسها تفرض هذا التكامل والتداخل. وفي هذا الصدد نشير إلى أن اللسانيات في المغرب قد عرفت، في فترة من الفترات، إقبالا كبيرا، وهو إقبال محدود الأفق من حيث نوعية محركاته. و هي محركات سوسيولوجية من نوع أرضي-أرضي لها علاقة بالإطار العام لسوسيولوجيا التكوين والتشغيل بالنسبة إلى طلبة الآداب في السبعينيات والثمانينيات. فالحصول على منحة للدراسة في الخارج كان يتطلب اختيار بعض التخصصات، ومنها اللسانيات؛ وهذا وحده غير كاف كمحرك سوسيولوجي لرواج علم من العلوم كقيمة تسمو على الظرفية.
باختصار فإن مواكبة مستجدات البحث اللساني يطرح صعوبات لا تختلف في شيء عن تلك المطروحة في كل مجالات الفكر العلمي في ثقافتنا. ويزيد الأمر تعقيدا بالنسبة إلى اللسانيات لكون هذا العلم يعتبر في نظر العديد من الناس من العلوم الكمالية، وهو اعتقاد لا نسلّم بصحته إلا فيما يتعلق بالتوازنات التي يتعين إقامتها بالنسبة إلى تكوين الأطر بحسب قطاعات البحث.
س:    اعتبار اللسانيات من العلوم الكمالية يلخص الوضع الحالي للدرس اللساني في ثقافتنا، وهو وضع نعتبره نتيجة طبيعية لملابسات التلقي؛ التي اعتبرت اللسانيات بموجبها علما غربيا لا يمكن أن يفيد الثقافة العربية في شيء.
ج:     أولا، إن العلم، كمعرفة بالطبيعة، وبالإنسان وبالمجتمع، لا حدود جغرافية له، ولا قومية، ولا إثنية؛ فلا يمكن أن نتحدث عن علم عربي، وعلم غربي، وعلم ياباني، وعلم صيني. إن التمييز والتميّز يحصل ويقوم على مستويات أخرى هي فضاء الذهنيات والثقافة الضابطة للقيم الجمالية والروحية والسلوكية والتدبيرية. في هذه المجالات تحديدا يمكن أن نتحدث عن الأصالة، وعن الآخر، وما إلى ذلك. أما إقحام هذه الأبعاد في مجال العلم فإنه مناف للعلم بحكم التعريف. ما معنى مثلا أن نتحدث عن رياضيات عربية إسلامية، أو عن رياضيات مغربية، أو عن فيزياء أمريكية، أو طب عربي؟ وهذا يصدق أيضا على اللسانيات.
إن طرح مسائل الخصوصية حينما يتعلق الأمر بتطور العلوم إنما يعكس تصلبا أيديولوجيا يصيب الأمم والجماعات في فترات معينة من تاريخها. وعندما تغلب الإيديولوجيا على العلم، فإن ذلك يحد من تطوره، مادامت الإيديولوجيا تعني، في معناها البسيط، "الذاتية"، سواء أكانت هذه الذاتية فردية أم جماعية، كما أن الأيديولوجيا درجات. وهكذا فقد بدأت اللسانيات مثلا أول ما بدأت في معسكر أوربا الشرقية، وتحديدا في براغ؛ ولكن تغليب إيديولوجيا معينة حكم عليها هناك بالتراجع. ثم انتقلت بعد ذلك إلى الغرب، وخصوصا أمريكا؛ وهناك وجدت تربة خصبة. الشيء نفسه يقال عن علم الاجتماع والسيكولوجيا. إن العلوم لا يمكن أن تتطور في ربقة الإيديولوجيا؛ وهذا ما هو حاصل في المجال الثقافي العربي اليوم.
س:   هل من تقويم ولو بسيط للسانيات في المحيط العربي؟
ج:   تقويم اللسانيات في المحيط العربي يمكن أن يتم على مستويين: مستوى التاريخ ومستوى الحاضر.
على مستوى التاريخ: لا نجد أحدا من العارفين يمكن أن ينكر ما حققته اللغويات العربية، وما لعبته من دور في تطور الفكر اللغوي الإنساني. فالبحوث العربية في هذا المجال هي من بين التقاليد الكبرى في الفكر اللغوي العالمي: التقاليد الهندية، والتقاليد الإغريقية، والتقاليد العربية.
على المستوى التاريخي دائما، أنبه إلى وجود حلقات مفقودة في التأريخ لللغويات العربية خاصة وللغويات الإنسانية بصفة عامة وللغويات المغاربية بصفة أخص. وأشير هنا تحديدا إلى حلقات تمت في شمال إفريقيا. فمن المعروف أن المتتبعين لتطور الفكر اللغوي على المستوى العالمي يشيرون إلى بعض المحطات الأساسية التي شكلت منعطفا هاما في تاريخ الفكر اللغوي الإنساني:  اكتشاف اللغة السنسكريتية، المدارس الألمانية (النحاة الجدد، المدرسة المقارنة)، الخ. وعادة ما يتم ربط ظهور الدراسات اللغوية التاريخية المقارنة، التي مهدت للسانيات الحديثة، بأصول ألمانية. وهنا بالتحديد يتم القفز على ما تم إنجازه في شمال إفريقيا، وبالضبط ما بين مدينتي 'تهارت' و'فاس' من جهة وبلاد الأندلس من جهة ثانية، وهو إنجاز ساهمت في تحقيقه ظروف سوسيومعرفية وسوسيولغوية تتمثل خصوصا في التعدد والغنى اللغويين بالمنطقة حيث كانت تتداخل العربية، والأمازيغية، والعبرية، والآرامية، واللاتينية، والقشتالية، والبرتغالية، الخ. وقد تداخلت هذه اللغات تداخلا وظيفيا؛ حيث كانت كل لغة من هذه اللغات تقوم بوظيفة معينة في قطاع أو قطاعات معينة (تجارة دولية، إدارة محلية، دين، أدب، علوم طبيعية،إلخ). وقد سمح كل هذا بظهور أولى المؤلفات في علم اللغة المقارن. ويمكن أن نشير، في هذا الصدد، إلى أعمال يهودا بن قريش، وخاصة رسالته المعروفة إلى جماعة يهود فاس، حيث قام ابن قريش هذا بإنجاز أول مقارنة ثلاثية بين العربية والعبرانية والآرامية التي كان يسميها بالكلدانية، فأقام قوانين التقابلات الصوتية بين هذه اللغات تماما كما فعل Jacob Grim بعد ذلك بثمانية قرون فاعتبره مؤرخو الفكر اللساني، عن جهل بالتاريخ الكوني، أبَ اللسانيات المقارنة. ثم إن هناك ابن بارون في كتابه "الموازنة بين العربية والعبرانية"، وأبراهام الفاسي، وآخرون غيرهم. وقد بلغت تلك المعارف المقارنة من البداهة حينئذ ما جعلها تنتشر بين عموم المثقفين ممن ليسوا لغويين، من أمثال ابن حزم الظاهري في مقدمة كتابه "الإحكام في أصول الأحكام"، وذلك باعتبار تلك المعارف حينئذ من باب الثقاقة العامة.  من كل ذلك نستنتج أن شمال إفريقيا عرف حوالي القرن الحادي عشر الميلادي وجود مدرسة لسانية مقارنة انقطع عنها السند بعد ذلك سواء بالنسبة إلى الأجيال اللاحقة من أبناء شمال إفريقيا أنفسهم، أم بالنسبة إلى الأجانب ممن اهتموا بالتأريخ للفكر اللغوي الإنساني. ولعل من بين أسباب هذا التهميش الذي طال هذه الكتابات هو أنها كتبت باللغة العربية ولكن بحرف عبراني.
أما على مستوى الحاضر، فإن ما ينبغي أن نشير إليه هو أن المغرب متميز في محيطه في مجال اللسانيات. فبعدما كانت الريادة لمصر (وافي، حجازي، السعران، حسان...) لم تحافظ الأجيال اللاحقة على استمرارية تطور تلك التقاليد الريادية التي انفتحت على اللسانيات في وجهها التاريخي المقارن ثم البنيوي، ثم تصلبت في ذلك المستوى ولم تستطع مواكبة التطور، ربما بفعل تصلب علاقات الأستاذية في محيط ثقافي لا يثق فيه جيل سابق بما هو جديد لمجرد أنه جديد تستعصي عليه مواكبته فيتخذ من الحساسية الشعارية ضد كل ما هو جديد وسيلة للاحتفاظ بأستاذية سلطويةً يعوض بها الأستاذية العلمية. أما في المغرب فمنذ بداية السبعينيات ظهر جيل أول من الباحثين الذين تمكنوا من أسس المعرفة اللسانية انطلاقا من الجامعات الغربية، مما ساعد على تكوين ما يمكن أن نسميه "وسط لساني"، فتكونت أفواج من الطلبة، بفضل مجهودات شخصية في أغلب الأحيان أكثر مما يتعلق الأمر بتأطيرات مؤسساتية؛ ولعل في ذلك النصيب من الحرية البيداغوجية ومن عدم إحكام تعميم الأستاذية السلطوية المتصلبة ما كان في صالح تطور اللسانيات. وقد كان ترسخ اللسانيات في شعب اللغة العربية أقل منه مقارنةً مع شعب اللغات الأجنبية في الداخل والخارج، التي ساهمت في تكوين نخبة من اللسانيين المغاربة، أصبح لهم حضورهم القوي، ليس في المغرب فحسب، بل على المستوى العالمي. يظهر ذلك في مساهمتهم الفعالة في تطوير البحث اللساني في مجالات التركيب والصوتيات والصرف. ويلاحظ اليوم، في نوع من الإشفاق على مستقبل اللسانيات بالمغرب، أن الكثير من هؤلاء الأطر قد انقطعوا عن الممارسة الفعلية للبحث والتأطير في الجامعة المغربية، حيث استأثرت بهم مهام مكتبية أخرى لها من الإشعاع، في إطار المحيط السوسيولوجي والثقافي السائد، أكثر مما للتفرغ للبحث العلمي والتأطير، وذلك وجه من أوجه الإهدار وإضاعة المال وإخطاء سبل المردودية.
إن الإشكال الذي تعاني منه اللسانيات في ثقافتنا اليوم هو إذن، مشكل الاستمرارية: فإلى أي حد تستطيع اللسانيات في المغرب، في ظل الشروط السوسيوثقافية المشار إليها، أن تواكب، جيلا بعد جيل، سلسلةَ التطورات المستمرة للأطر النظرية، وللأوجه التطبيقة لهذا العلم على المستوى العالمي، والتي تزداد وتيرتها سرعة يوما بعد يوم؟ ويزيد إلحاح السؤال عندما نعرف أن السوق الداخلية لا تساعد من حيث الطلب والاستهلاك، وحتى من التقدير العام لمهنة البحث عامة. فالمواكبة تفرض حاليا الارتباط المستمر بمؤسسات أجنبية، ونوعا من الغربة عن الوسط السوسيولوجي المباشر. ويساهم في هذا الوضع طبيعة اللسانيات نفسها، التي تتميز بطابع علمي صوري يفتقد كلَّ أشكال "المتعة الأدبية" التي تغلب على مفهومنا الثقافي للمعرفة، وتفرض بالمقابل مجهودا كبيرا في المتابعة والمواكبة، وذلك في وسط عامّ لا يتابع ولا يناقش ولا يبحث أصلا.
س:    نعتقد أن اللسانيين العرب ساهموا بشكل أو بآخر في الوضع الحالي للسانيات: غياب كتابة لسانية تيسيرية تقرب اللسانيات من القارئ العربي
ج:    أتفق معكم تمام الاتفاق حول هذا الأمر. إن الخطاب اللساني الموجه إلى القارئ العربي يطرح صعوبات عدة؛ منها انقطاع السند على مستوى المصطلحات والمفاهيم. أعني بهذا أن البحث في هذا المجال لم تتم إعادة بنائه على أسس ربط انتقالي للحديث بالقديم على مستوى المصطلحات والمفاهيم أثناء عرض المقولات والبنيات والآليات التصورية الجدبدة، وذلك بخلاف اللسانيات في البلاد المتقدمة التي تطورت فيها الآلة الاصطلاحية في تدرج لا يخلق قطيعة معرفية تصوّر لقارئ نص لساني بأن النص يتناول، من حيث الجوهر، شيئا جديدا مخالفا، في الطبيعة، لما كان يعالجه ما كان يعرف بـالنحو والصرف والمعجم. ويترتب على انقطاع السند المشار إليه وجهٌ آخر للمشكل لا يقل أهمية ويتمثل في غياب كتابات تعنى بالتيسير، أي ما يسمى vulgarisation، والذي تحتاج إليه كل العلوم لكي تترسخ في وسط معين، ولكي يمر منها باستمرار نصيب معين إلى دائرة الثقافة العامة المشترك فيها. وفن تيسير العلوم فن يتطلب مهارة بيداغوجية خاصة، بالنظر إلى طبيعة القارئ المستهدف، لا تتوفر دائما وبالضرورة في الباحث المنتج للمضامين العلمية. فتشومسكي مثلا عبقري من حيث إنتاج المضامين العلمية، ولكنه لا يكترث بالجانب البيداغوجي في التقديم. إن أناسا من أمثال وليام رايمزديك، و مايكل كينستوفيتش هم البارعون في تيسير مضامين نص لساني لتسري في أوساط أهل الفن وتصبح بعد ذلك من المكتسبات العامة في المجال.
الإشكال الآخر الذي تولد عن انقطاع السند وعن القطيعة الاصطلاحية والمفاهيمية هو استفادة كثير من المدعين من كل أنواع الخلط المتولدة عن ذلك الانقطاع، وذلك لترويج خطابات تُحسَبُ على اللسانيات بحكم عناوينها، على الرغم من كونها مجر هذيان ولغو لا مضون لهما. إن اللسانيات باعتبارها علما من العلوم الإنسانية غير ذات مناعة ضد ما يمكن أن نسميه بـ"الشعوذة اللسانية". وهذا يجعل الكثير من الكتابات التي تُحسَب على اللسانيات تُـنفر الناس، من ذوي الجد، عنها؛ أما المستخفون منهم فيفتعلون الفهمَ حيث لا يوجد في واقع الأمر ما يمكن أن يُفهَم، فيعقبون بنصوص أخرى أكثرَ لغوا يدعون من خلالها بأنهم "غير متفقين"، وبذلك تروج سوق اللغو والشعوذة اللسانية؛ وقد سبق لي أن كتبت في هذا الأمر مقالا منذ حوالي عشرين سنة ("اللسانيات العربية المعاصرة ما بين البحث العلمي وتهافت التهافت". دراسات أدبية ولسانية؛ فاس، المغرب؛ ع3 (1986)؛ ص57-110).
س:    لقد خطت اللسانيات خطوات مهمة في العالم المتقدم؛ فمن جهة هناك كثرة النماذج والنظريات ومن جهة ثانية هناك تعقد وتشابك الخريطة التصورية لأحياز البحث في التركيب والصرف والدلالة والمعجم يصعب أحيانا تمثل أسسها وإمكاناتها وآفاقها؛ كما أن التداخلات المعرفية التي فتحتها الثورة المعرفية مع نمو العلوم المعرفية غيرت خريطة العلاقات بين اللسانيات أو علم اللغة من جهة، وبقية العلوم المتداخلة مع هذا العلم في الموضوع كعلم النفس، وعلوم الذكاء الاصطناعي، والمنطق من جهة ثانية. كل هذا يطرح  إشكالا بالنسبة إلى المؤسسات العلمية العربية التى تحتاج إلى تجديد تصوراتها لخارطة العلوم  من حيث الأولويات، ومن حيث بيداغوجيا التكوين ورسم المسالك والمجزوءات والمقررات الأكاديمية. ألا تعتقدون أن مسالك تشخيص الأزمة متعددة، منها ما هو إبستيمولوجي يتعلق بأدوات التصور من مقولات وأطر نظرية ونوعية خطاب كما أشرتم إلى ذلك على التو، ومنها ما يتعلق بتخطيط البحث العلمي وبسوسيولوجيا طلب المادة العلمية، وإنتاجها، وتبادلها، واستهلاكها، ورعاية مؤسساتها؟
ج:    إن البعد الابستمولوجي قائم فعلا وضروري لفهم حقيقة ووظائف مختلف مجالات البحث بما فيها البحث اللساني. ألا نرى أن الإطار المعرفي الذي كان يؤطر بحث القدماء قد جعلهم يميزون مثلا بين علوم الآلة وعلوم الغاية، وأن ما يعتبر منها غاية في مستوى معين من مستويات التصور يصبح آلة ووسيلة في مستويات أخرى؟ ومع ذلك فهناك من العلوم ما هو آلة بامتياز وغاية بامتياز؛ إنها العلوم المعرفية الصورية، كالرياضات، واللغويات، والمنطقيات. فبالرغم من أن هذه العلوم الصورية تطلب لذاتها كغاية في الأطر المعرفية الحديثة، فإن سائر علوم الطبيعة، والانسان، والمدينة، في حاجة إلى ما توفره هذه العلوم المعرفية الصورية من أدوات مقولية ومفهومية وعملياتية لكي تصوغ بها تلك العلوم قضاياها وأسئلتها وفرضياتها ونظرياتها.
ولكن لم تعد مثل هذه الثقافة العلمية قائمة. فالمنطق مثلا، وهو من العلوم الصورية المساعدة الأساسية، قد غاب عن الجامعة المغربية، بسبب تغييب الفلسفة، التي غابت معها الكثير من الأسئلة الابستمولوجية، فتكونت بذلك أجيال لا تطرح مسائل المعرفة أبدا، ولا تطرح المشاكل التي طرحت مع بداية النهضة الأوروبية مثلا طرحا عميقا. فنحن نعيش في عالم انطلقت قاطرته العلمية والتكنولوجية الأولى مع بداية النهضة الأوربية. هذا هو العالم الذي نعيش في ظرفيته على جميع المستويات (خصوصا مستوى الاستهلاك المادي) ولكننا خارج روحه وجوهره. إن الأمم التي تريد أن تنخرط في الحضارة المعاصرة يجب أن تهضم أسئلة فترة الأنوار التي لا يمكن منطقيا القفز عليها باسم خصوصية معينة، وذلك لأن أبعادها ومنطلقاتها كونية. غير أن ثقافتنا مازالت بعيدة عن الانخراط في هذا التقليد لأسباب إيديولوجية محضة قائمة على الخلط بين مجال العلم، بما فيه نظرية الأخلاق (Ethique) من جهة وهو مجال كوني، ومجال الثقافة والإبداع من جهة ثانية، الذي هو مجال إبراز الخصوصيات. وبما أنه ليس هناك قط وقت لفوات الأوان بالنسبة إلى الخطى الجدية الصغيرة اللازمة لقطع آلاف الأميال، فلا مناص من العودة للتشبع بروح النظريات العقلانية والأسئلة الكبرى التي كانت تؤطر السؤال العلمي في ميادين الطبيعة، والسؤال الأخلاقي في ميادين الإنسان والمدينة في فترة الأنوار.
س:    فهل ترون إذن بأن المحاولات الجارية لإعادة الاعتبار للفلسفة تترجم بروز  وعي بخطورة المشاكل التي تراكمت إبان مرحلة  التغييب السابقة؟
ج:    أخشى أن تكون إعادة الاعتبار للفلسفة مندرجة في إطار أضيق، لخدمة أهداف إيديولوجية بالأساس تحت ضغط الظرفية السياسية. فقد حوربت الفلسفة في وقت من الأوقات لأهداف سياسية، في إطار محاربة الفكر الماركسي، كما لو أن الفلسفة، كنمط للتفكير، ترتد إلى نظريةٍ بعينها من النظريات الفلسفية، ثم جاءت محاولات لإدماجها من جديد. ولكن إعادة إدماج الفلسفة هذه لم تكن، حسبما يبدو لي، ثمرة وعي بقيمة التفكير الفلسفي في حد ذاته كشرط من شروط أي نهضة، بل مجرد تجريب وتوظيف أيديولوجي مرحلي غاياته سياسية في إطار محاربة بعض التيارات السياسية الحالية. إذا كان الأمر نابعا من قناعات نفعية توظيفية كهذه، فإن ما يسمى بإعادة إدماج الفلسفة محكوم عليه بالفشل سلفا. والحال أنه لا علم، بل لا دولة حقيقية، بدون فضاء للفلسفة في المدينة. فمن السهل بناء أيديولوجيا شعاراتية تعبوية تحرك العامة والجمهور الخام تحريكا حركيا؛ ولكن ليس من السهل بناء جهاز فلسفي متماسك وقوي ومقنع للعقل بذاته، يخول للعقل حريةَ التفكير وحريةَ صياغة الأسئلة، حتى تبقى المسألة بعد مجردَ مسألةِ حرية تعبير عن تلك الأسئلة، فيكون حلها شأنا سياسيا. فالمعضلة هي انتفاء حرية التفكير على مستوى المكون الثقافي لذهنية أفراد المجتمع، وليس انعدام حرية التعبير على المستوى السياسي. لكل الاعتبارات السابقة يمكنني القول إن تغييب الفلسفة وما يرتبط بها ويتأسس في مناخها من علوم اجتماعية لم ينعكس سلبا على تلقين وتلقي اللسانيات فحسب، بل على العلوم كلها في المشهد الثقافي العربي بشكل عام، وهذا ما يفسر انتشار الفكر الخرافي في العقود الأخيرة بالأحرى في أوساط المواد العلمية، بما أن هذه المواد تلقَّـن كمجرد ركام من الوصفات الجاهزة خارج أي تأطير فلسفي.
س:    تتعلق المسألة إذن، بالمجال المادي لإنتاج الأفكار الذي يخضع لتنظيم وهيكلة من طرف السلطة التي توزع الأدوار وتقنن وظائف المنتوج المعرفي استنادا إلى اعتبارات ظرفية.
 ج :   إن الإشكال المطروح لا يمكن أن نعتبره مع ذلك مجرد إشكال تنظيم، وتدبير، وهيكلة، على سبيل الحصر. إنه أكثر من ذلك بكثير. إن جوهر المشكل هو ما إذا كانت للنظام الثقافي السائد ثقة في العلم كعلم، أي ما إذا كانت فيه للعلم قيمة محترمة في حد ذاته بالقياس إلى غيره (كالسياسة والإدارة والتجارة والرياضة) في سوق الرمزيات والنفعيات. على هذا المستوى بالضبط، نجد أن مجتمعنا قد عرف نوعا من النكوص فيما يتعلق بقيمة العلم باعتباره إنجازا بشريا يجعل الإنسان قادرا على أن يفعل في الطبيعة وأن يعبر عن معطياتها بشكل صوري. إن المسألة إذن، ليست تنظيمية فقط؛ إن المشكل مشكل تربوي كذلك يتعلق بتكوين وتكييف الذهنيات والعقليات، وهذا يعني أن معالجته تكمن في تكامل بين الإجراءات التدبيرية للشأن التربوي والثقافي العام وبين الفعل التنويري للنخبة. وحينما تحقق تطورات وثورات على مستوى العقليات والذهنيات، يأتي التنظيم والتدبير الملائم من تلقاء نفسه.
س:   إن أي وضع لغوي تعددي يقتضي تدبيرا عقلانيا محكما للتعدد على هدي المشروع المجتمعي المنشود؛ وذلك من خلال توزيع متوازن عقلاني تكاملي لوظائف اللغات المتعايشة. ما  قولكم في الوضع اللغوي المغربي القائم وفي الكيفية التي يتم فيها التعامل معه؟
ج:   الواقع اللغوي المغربي واقع تعددي. وهذا التعدد هو القاعدة في تاريخ المغرب. ففي إطار هذا التعدد اللغوي حققت الأجيال ما حققت، وخلفت لنا ما خلفت. فالذي يتغير، بحسب معطيات التاريخ الجهوي والعالمي الذي يتفاعل معه المغرب، هو عينية اللغات التي تشكِّـل فيه عناصرَ ذلك التعدد تواكبا وتناوبا (ليبية، فينيقية، بونيقية، آرامية، عبرية، لاتينية، عربية، قشتالية، رومانثية، برتغالية، اسبانية، فرنسية، انجليزية)، وليس مبدأ التعدد في حد ذاته وجودا وعدما. فمن ذا الذي بإمكانه أن يثبت وجود فترة من الفترات عبر تاريخ المغرب – فترة ازدهار مدني حضاري كانت أم فترة اضمحلال وانحلال – تتسم بالأحادية اللغوية؟. على هذا الأساس نقول إن قضية التعدد اللغوي ليست جديدة سواء كواقع أو كطرح سوسيولساني. ليس هناك جديد بخصوص مبدئية وجود هذه المسألة. التغيير إنما يحصل على مستوى التعامل مع تدبير ذلك التعدد اللغوي. هذا التدبير يتخذ أوجها مختلفة ويسفر عن تراتبيات، ووظائفيات، ورمزيات سوسيولغوية مختلفة، بحسب منظومة القيم الأيديولوجية القائمة والمؤسسة له في فترة من الفترات.
لقد استتبت عقب استقلال المغرب مثلا مجموعة من القيم الأيديولوجية أساسها الجنوح نحو الرفع من قيمة وحدة الأبعاد الانتمائية بقطع النظر عن منطلقات الإطار العقدي (وحدة اللغة، وحدة القومية، وحدة الدين، وحدة الحزب، وحدة العمال، وحدة النقابة، وحدة ومركزية الحكم الخ.)؛ وقد انعكس ذلك على كيفية واتجاه وغائيات تدبير الملف اللغوي، وذلك من خلال التدخل على مستويات قطاعات التعليم، والإنعاش الثقافي، ومصالح العدالة، ومرافق الشأن المحلي، ووسائل الاتصال، وذلك في اتجاه تراتبية ووظائفية ورمزية سوسيولغوية معينة. وفي وقتنا الراهن دخلت على الخط قناعات أخرى أخذ ينخرط فيها الفكر، وذلك في اتجاه الرفع من قيم الديموقراطية، وحقوق الإنسان، والحق في الاختلاف؛ وكان للملف اللغوي علاقة جدلية مع هذا الواقع الجديد من حيث التأثير والتأثر. فمن ذا الذي يمكن أن ينكر بأن الخطاب المطلبي اللغوي كان، في المغرب الحديث، من بين مؤسسي قيم الاقتناع بالحق في الاختلاف؟ ومن ذا الذي يمكن، من جانب آخر، أن ينكر بأن ما عرفه تدبير الملف اللغوي من تقدم على الصعيد الرسمي انعكاسٌ، بالمقابل، للاتجاه العام الذي انخرط فيه المغرب عموما منذ سنوات، والذي انعكس كذلك على ملفات اجتماعية أخرى كملف المرأة، ومفهوم السلطة، والحريات الفردية والجماعية.
إن التعدد أمر طبيعي، وفي ظل هذا التعدد أفرزت الحضارة العربية والمغربية آثارا خالدة. يبقى فقط أن نعرف الكيفية التي ندبر بها هذا التعدد، والتي تمكننا من الاستفادة من المزايا التي يوفرها. إن التدبير اللغوي يفرض وضع لغة معينة في المكان العقلاني المناسب لها بمقتضى ميزان التوازنات اللازمة إقامتها بين الوظائف الرمزية والهوياتة لتلك اللغة من جهة، وبين معطيات الوقت من جهة ثانية.
وإلى جانب التدبير السوسيولغوي العام للتعدد، أو ما يمكن أن نسميه "الماكرو-تدبير" على صعيد الفضاء الاجتماعي، لابد من تدبير بيداغوجي لذلك التعدد، أو ما يمكن أن نسميه "الميكرو-تدبير" على صعيد قطاع التعليم.
وكما أن الدول الواعية المنخرطة في العصر تجتهد باستمرار لتكييف تدبير واقعها اللغـــوي بحسب مقتضيات العصر ليس فقط على الصعيد الداخلي، ولكن كذلك على الأصعدة الجهويــة والــــــعالمية، بحسب قدراتها وطموحاتها ومسؤولياتها، فإن على المغرب أن يكون له اجتهاد على تلك الأصعدة كذلك بما يتوافق مع قدراته ومطامحه. وأذكر بهذا الصدد بأنه كان قد سألني مؤخرا أحد المشاركين في "الدورة الثالثة لملتقى بايروت-فرانكفورت بألمانيا حول الدراسات الأمازيغية" (3.Bayreuth-Frankfürter Kolloquium zur Berberologie’ من 1 إلى 3 يوليوز 2004)، وهـــــو باحـــــث إيطــــالي من "قســـم الدراسات والأبحاث حول إفريـقيا والعالم العربي" (Dipartimento  di  Studi  e  Richerche  su  Africa  e Paesi Arabi) بجامعة نابولى الإيطالية، و هو مؤلف لعدة مجلدات حول "الدخيل العربي في اللغات الإفريقية"، أقول سألني عما إذا كان للأوساط الأكاديمية بالمغرب، جامعةً ومعاهدَ، اهتمامٌ بهذا المنحى من مناحي البحث الذي تخصص فيه، فكان جوابي له بأنه، فيما عدا منشورات معهد الدراسات الإفريقية، التي يغلب عليها التاريخ والمناقبيات، ليست هناك خطة اهتمام أكاديمي منهجي بإفريقيا، خصوصا في ميدان اللغويات والسوسيولغويات. قلت له ذلك ثم تساءلت بالمناسبة مع نفسي: كيف يحصل أن يكون الأمر كذلك؟ مع أن هناك اليوم واقعا متحركا في ذلك الفضاء الإفريقي على الصعيد السوسيو-لغوي من خلال سعي كثير من اللغات الأفريقية النامية (أمازيغيات الطوارق في المالي والنيجر وبوركينافاصو، 'الولوف'  و'الفولا' في غرب إفريقيا، 'الصونغو' في وسط إفريقيا، 'السواحلية' في شرق إفريقيا، الخ.) إلى احتلال مواقع جديدة في رقعة الأسواق اللغوية المحلية والوطنية والجهوية؟ قلت له ذلك وأنا أوازن في ذهني، في نوع من المفارقة، ما بين الرغبة في إعادة الحضور المغربي إلى فضاء عمقه الإفريقي، التي ترجمتها مثلا الرحلة الملكية الأخيرة إلى بلدان هذه القارة، وكذا بعض المبادرات الموفقة للمال والمقاولة المغربيين في هذا الفضاء من جهة، وبين الغياب الأكاديمي شبه التام للجامعة وللمعاهد المغربية عن ذلك الفضاء في وجهه الحي، القائم اليومَ، وليس فقط على مستوى النصوص المناقبية، متسائلا عما إذا كان فعلا بالإمكان إحرازُ حضور اقتصادي وديبلوماسي متمكن في فضاء معين في حالة غيابٍ تام لأي فعل ثقافي وعلمي عن ذلك الفضاء، وفي ظل الجهل التام بلغات الشعوب المعنية وبثقافاتها؟ إن تجربة المغرب في ميدان اللسانيات بصفة عامة، وخاصة تجربته الفتية الرائدة في ميدان إعداد الفضاء السوسيولغوي، وتطويع الأبجديات، والعمل على ضمان معيرة مواصفاتها على الصعيد العالمي، وكذا تطوير إملائيات قصد إدراج اللغات ذات التقاليد الشفوية في المنظومات الكتابية والتعليمية الرسمية، لَـممّـا يؤهل هذا البلد للعب دور متميز في عمقه الجهوي الإفريقي المذكور، الذي مثّـل، عبر التاريخ، أساسَ احتفاظ هذا البلد بموقعه المتميز المستقل على مستوى إحداثيات بقية أبعاده الممتدة في الفضاء العربي والإسلامي، وفي علاقاته التبادلية القوية غير المتكافئة مع محيطه في شمال المتوسط. إن توجها أكاديميا مثل هذا لمن بين التوجهات القطاعية الكفيلة بإعطاء فهم حقيقي، يستهدي التاريخَ والجغرافيا، لذلك الجواب الواقعي، البعيد عن لغة الخشب أو المزايدة، والذي أجاب به العاهل المغربي مساعدَ كاتب الدولة الأمريكي في شهر مارس 2004 بمدينة الحسيمة حينما عرض عليه هذا الأخير خطة "الشرق الأوسط الكبير" فقال: "أولا، نحن لسنا جزءا من الشرق الأوسط الكبير؛ ثم إنه يتعين ألا يضع المرء العالم العربي برمته في نفس الكفة؛ فالمغرب قطر مغاربي وشمال-إفريقي. لدينا كثير من النقط المشتركة مع أصدقائنا في الخليج وفي الشرق الأدنى؛ غير أننا لا نواجه نفس الوقائع".
س:    لقد حظيت مسألة الحرف في كتابة الأمازيغية بنقاش عمومي توزع بين مساهمات تفتح الموضوع على أبعاد علمية وحضارية وثقافية، وبين مساهمات سجالية. إذ في الوقت الذي نجد فيه بعض النقاشات تخص سمات الحرف العربي وكفايته التمثيلية والوظيفية وقدرته على تسهيل تعلم الأمازيغية من خلال أبجدية واحدة ذات عمق حضاري و رمزي تقبل التطويع نجد نقاشات تدافع عن طرق أخرى للكتابة . ما هي وجهة نظركم في الموضوع؟
ج:    إن مسألة الحرف مسألة بالغة الأهمية ومتعددة مستويات الطرح الممكن؛ ويمكن تناولها من جانبين: جانب معرفي موضوعي يتعلق بتشخيص المعطيات والإمكانات، وجانب أيديولوجي يتعلق بالإراديات والذاتيات. لكننا وجدنا عمليا بأن هذه المسألة كان قد احتكرها صوت الرأي في الشارع، في إطار غلبة تناول الجانب الثاني، فتوارى فيها بحكم الغلبة صوتُ المعرفة. وهذا يترجم مرة أخرى سيادة ثقافة وعقلية عدم الثقة في العلم كأحد مظاهر التخلف. ولقد سبق لي أن حاضرت في الموضوع في كل من "أكاديمية المملكة المغربية" و"معهد الدراسات والأبحاث للتعريب"، ونشرت فيه عدة أعمال أكاديمية وصحفية، أهمها كتاب بالفرنسية حول الإملائية الأمازيغية، وهو من منشورات كلية الآداب بوجدة 1999 (Principes d’orthographe berbère en graphie arabe ou latine)، بالإضافة إلى بحث أكاديمي مطول بالعربية، وهو من منشورات أكاديمية المملكة المغربية ("نحو تدوين الآداب الشفهية المغربية في إطار الحرف العربي الموسع") وبالإضافة إلى مقال صحفي مطول، ولا يتسع المقام هنا لإعادة طرح تفاصيل ما جاء في هذه الأعمال، وهي منشورة على كل حال.
س:    إن أي تخطيط وبناء للتعدد له كلفة تقاس اقتصاديا بالقدرة على توفير الوسائل والإمكانيات التقنية لتنفيذه وصياغة برامج إصلاح واضحة مع تعميمها. كما أن له كلفة تقاس اجتماعيا بالقدرة على ضمان استقرار هويتي داخل نسيج سوسيولساني مركب في بلد متعدد الأبعاد مثل المغرب.ألا ترون أن الإرادة العامة في البلاد تتجه نحو المأسسة اللغوية الفاعلة بتشكيل أكادمية محمد السادس للغة العربية والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ومع ميثاق التربية والتكوين، بحيث يمكن أخيرا القول بأن الدولة أصبحت تضع حسابات متوازنة للكلفة والفائدة لصالح التوازنات اللغوية؟
ج:    تدبير التعدد يبدأ بمدى تقدم الفكر الجمعي وإدراكه أن التعدد واقع طبيعي، وأن لهذا الواقع الطبيعي علوما تتناوله: سوسيولسانية وتربوية. إن بإمكان هذه العلوم أن تشخص الواقع، فـتُبنى على أساس ذلك التشخيص برامجُ في ميادين متعددة في مجالات التربية والتنمية الاجتماعية والاقتصادية. وكما لاحظنا ذلك بالنسبة إلى واقع العلوم النفسية والاجتماعية عامة في خارطة البحث العلمي المغربي، وأصدرنا في شأنه توصية خاصة ضمن أعمال الورشة الثالثة لعلوم اللغة والتواصل ضمن وقائع أعمال الملتقى الوطني حول البحث العلمي والتنمية الذي نظمته كتابة الدولة المكلفة بالبحث العلمي (مركز الاستقبال – الرباط 13-14 أبريل 2001)،  فإنه على الرغم من التقدم الذي أحرزته اللسانيات عندنا في المغرب، فإننا ما زلنا نلاحظ  شبه غياب للسوسيولسانيات والسيكولسانيات. وترجع أسباب هذا الوضع إلى غياب العلوم الاجتماعية عامة نتيجة لتغييب الفلسفة كما أشرنا إلى ذلك من قبل. إن ما نتوفر عليه من معالجات سوسيولسانية وسيكولسانية قليل جدا. كما أن الدراسات القليلة المتوفرة في هذا المجال مكتوبة بلغات أجنبية. أضف إلى ذلك أن هذا النوع من الدراسات ما زال بعيدا كل البعد عن ثقافة "طلب العروض لإنجاز دراسات". نعني بذلك أن تطلب مثلا وزارةٌ، أو حزبٌ، أو هيئةٌ ما، من خبير في الميدان، الإجابةَ عن أسئلة مسائل معينة يتوقف عليها تدبير القطاع المعني. إن مثل هذه الثقافة غير موجودة في تقاليدنا التدبيرية. ولذلك يبقى التدبير اللغوي في المغرب سواء على مستوى المؤسسات الحكومية أو الحزبية، رهين مبادرات ما يسمى بـ"الدمغي" سواء على مستوى صياغة الأسئلة، أم فيما يتعلق بوضع البرامج والخطط. إن من يصلح  لطرح سؤال البحث في هذا المجال هم الباحثون الفرادى، وذلك بمجرد فضول علمي وليس استجابة لتوجيه مؤسسة علمية أو لطلب مصلحة أوقطاع حكومي أو حزبي. أما المجتمع المدني فيعبر عن الأسئلة بطرقه الحدسية المعتمدة على الرأي، ومن ثمة فهو لا يصوغ الإشكالية صياغة علمية تنبني على أساسها مخططات للتدخل والتدبير، بل غالبا ما يتخذ مواقف وسلوكات تدافعية، هي في أحسن الأحوال مؤشرات على وجود إشكال معين دون تشخيصه وغالبا ما يهتم السياسي بهذا الوجه وينسى الوجه الآخر. ومع ذلك فمن الأكيد أن هناك مجهودات تأسيسية تبذل حاليا للدفع في اتجاه أكثر عقلانية، وذلك من خلال نصوص "ميثاق التربية والتكوين"، و"الظهير المؤسس للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية"، ثم من خلال البدء في تفعيل هياكل هذا المعهد، وكذلك من خلال مشروع أكاديمية محمد السادس للغة العربية. ولكن هذا كله يحتاج بالضرورة إلى آلية شفافة وصورية لترشيد تزويد هذه المؤسسات بموارد العنصر البشري، هذا العنصر الذي تتحكم نوعيته في الدفع الفعلي بروح تلك النصوص في هذا الاتجاه أو ذاك مهما كانت عبقرية إحكام صياغة المشرع لها في اتجاه دون آخر. لكننا لا نجد لحدّ الساعة مساطر تضمن تلك الشفافية وذلك الترشيد، يستعان فيها، إن اقتضى الحال ذلك كما تفعل ذلك مؤسسات عريقة على الصعيد العلمي، بخبرات خارجية (External Examiners) لمعالجة ملفات المشاريع. إن ميكانزمات اختيار العنصر البشري تبقى عنصرا حاسما في هذا المجال.
س:    في ختام هذا الحوار نريد منكم تحديد أهم القضايا التي يجب أن ترتكز عليها البحوث اللسانية العربية إن هي أرادت مسايرة الركب والمحافظة على استمراريتها.
ج :     كنت قد أجبت عن مثل هذا السؤال من خلال مشروع اقتراحي رسمي ألتزم بنشره وتعميميه في تفاصيله حينما تسمح الأمور بذلك. وخلاصته في هذا الباب أنه يتعين على البحوث اللسانية العربية، إن هي أرادت مسايرة الركب، أن تتجاوز العقلية النرجسية المتمثلة في التسليم المجاني بأن البحث اللساني باللغة العربية لا يمكن أن ينصب، وإلى الأبد، إلا على اللغة العربية ذاتها. إن تطوير الآلة الواصفة لهذه اللغة، والرفع من قدراتها التصورية، والمفاهيمية الاصطلاحية، والصياغية، أمور لا يمكن أن تحصل، كما هو شأن بقية اللغات، إلا بانفتاح هذه اللغة وبجرأتها على تناول لغات أخرى، قريبة أو بعيدة، بالدرس والوصف. فيما يتعلق بتجربتي الشخصية في ميدان التكوين اللساني، وبقطع النظر عن البحث العلمي والنشر في هذا الاتجاه الذي أرى أنه الأصوب لتطوير اللسانيات العربية، لم أشرف على عشرات الأطاريح الأكاديمية بشكل يخل بشروط الإشراف؛ ولكن ما أشرفت عليه وتمت مناقشته إلى اليوم، في قسم اللغة العربية تحديدا، يسير في هذا الاتجاه (أطروحة لسانية واحدة حول أصوات العربية الفصحى؛ ثلاثة أطاريح لسانية منصبة حول الأمازيغية ما بين تركيب وأصوات؛ أطروحتان حول العبرانية). وأضيف أنه في اليوم الذي يسمع فيه المرء مثلا عن سلسلة من الأطاريح الجامعية تنجز باللسان العربي، وتناقش باللغة العربية، في شعب العربية، وتدور حول  تنازع العمل (Theta Role Conflict)  في العبرانية، أو حول قواعد الغنة (Nazalization) وأسسها في الفرنسية، أو حول انقطاع الجارّ  عن المجرور (Stranded Preposition)  في الإنجليزية، أو عن الجار المنقطع  والمتحرك إلى موقع الصدارة (Pied-piped Prepostion) في الإنجليزية والأمازيغية، أو عن أسس التركيب الحصري (Cleft Construction) في الأمازيغية أو في العربية المغربية الدارجة، أو عن أسس تحرُّك العناصر المرتبطة (Clitic Movement) في الأمازيغية، أو عن قواعد النبر (Stress Assignment) في العربية الحسانية أو في العربية القاهرية، إلى غير ذلك من الميادين البكر، إذ ذاك سيقوم البرهان العملي ليس على وجود لسانياتٍ عربية – إذ اللسانيات لسانيات وكفى –  ولكن على أن اللغة العربية قد اقتحمت بالفعل ميدان اللسانيات كلغة منتجة للمعرفة وحاملة لها. وما لم يتم هذا فإن العربية ستبقى مجرد "لغة كتاب"، في حدود السقف الابيسيتمولوجي المعرفي الذي رسمه التراث المؤسِّس كسقف لعلوم العربية (نحو، صرف، معجم، بلاغة) باعتباره هذه العلوم مجرد علوم آلة إنما تُـطلب في حدود ما يخدم علوم الشرع (قراءات، تفسير القرآن، تحقيق متن الحديث، استنباط الأحكام من النصوص) التي تمثل الغاية المعرفية. وتجدر الإشارة إلى أن القوة الأيديولوجية لهذا الحصر المعرفي التأسيسي لعلوم العربية كان قد حال حتى دون استنفاذ كافة الإمكانيات التي يسمح بها سقف الوضع الاعتباري لعلوم الآلة نفسه؛ ذلك أن قوة الربط الأيديولوجي للدرس اللغوي العربي بغائية معالجة النصوص الشرعية، وما ترتب على ذلك من ربط للغة نفسها بالقداسة، في تداخل كل ذلك مع القيم القومية، قد حال حتى دون الانفتاح المقارن لهذه اللغة على قراباتها اللغوية من عبرانية وسوريانية، وعلى القرابات الملية من علوم الصحف الأولى. فكم هو عدد المفسرين الذين يعرفون مثلا بأن المعنى الحقيقي الأصلي لكلمة "مِـلّـة" ذات الأصل العبراني (مِـلة أو مُـلة מולה) هو "الختان"؟ أي أن "ملة إبراهيم" (מולת אברהם)تعني في أصل لغة الصحف الأولى "ختان إبراهيم"، الذي هو ختمٌ رمزي وختامٌ لِــما أخذ اللهُ "ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله، وبالوالدين إحسانا، وذوي القربى، واليتامى والمساكين" (البقرة 83) وذلك إذ قيل في سفر التكوين (17: 9  ثم قال الله لإبراهيم "أما أنت فتحفظ عهدي، أنت وذريتك من بعدك جيلا بعد جيل. 17: 10 هذا ميثاقي الذي تحفظونه بيني وبينكم، أنت وذريتك من بعدك :  يُختـَن كلُّ ذكر منكم. 17: 11 فتـختِـنون  لحمةَ غُـرلتكم؛ ذلك ميثاق بيني وبينكم")، وأن من ذلك المعنى الحقيقي فاض معنى "الدِين" عن طريق النقل بالمجاز ("قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم، دينا قيما، ملةَ إبراهيم حنيفا؛ وما كان من المشركين" الأنعام 161). هذا مجرد مثال من أمثلة كثيرة.