مواضيع الاسبوع

علوم التصحيح في اللغة دكتور احمد كروم

5.11.13

القراءات والدّرس النّحوي

القراءات والدّرس النّحوي:
كان اهتمام النّحاة بالقراءات القرآنية جلياً فهم من أخذوا بشروط القراءة المقبولة –غالباً – ولكنّهم قبلوا القراءة النادرة والشاذة – أحياناً – بعد أن أخضعوها لمقاييسهم، فهم- مثلاً- لم يقبلوا "قراءة أحد من القرّاء إلاّ إذا ثبت أخذه عمَّن فوقه بطريق المشافهة والسماع حتّى يتّصل الإسناد بالصحابي الذي أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم(1).
ومع ذلك وجدتُ ابن الجزري يقبل كلَّ قراءة؛ "لأنَّ القراءة سنَّة متّبعة يلزم قبولها والمصير إليها"(2).
ورغم أنَّ سيبويه يخضع أحياناً القراءات للقياس النحوي، فهو يرى – مثلاً – أنَّ (ما) في قوله تعالى: (ما هَذا بشَراً)(3) عاملة عمل (ليس) في لغة أهل الحجاز، إلاَّ أنّ بني تميم يرفعون الخبر إلاَّ من عرف منهم كيف هي في المصحف(4). ولكنّه يشاطر التميميّين رأيهم في عدم إعمال (ما)، ويرى ذلك هو الأقيس؛ لأنّها حرف، وليست فعلاً، فهي لا تشبه (ليس) من ناحية الفعلية، ولا من ناحية الإضمار، وفي ذلك يقول: "وأمَّا بنو تميم فيجرّونها – [أي يَجرُون الحرف ما –] مَجرى: أما وهل، وهو القياس؛ لأنّها ليست بفعل، وليست: ما كـ: ليس، ولا يكون فيها إضمارٌ"(5).
والأخذ بالقياس في القراءات عند سيبويه لا يمنعه من أن يصرّح في كتابه أنَّ القراءة سنّة، وليست مجالاً للاجتهاد والاختيار، وفي مثل ذلك يقول: "فأمّا قوله عزّ وجل: (إنَّا كُلَّ شيءٍ خَلقنَاهُ بِقدَرٍ)(6)، فإنّما جاء على: زيداً ضربته- وهو عربي كثير- وقرأ بعضهم: (وأمَّا ثمودَ فَهَدينَاهُم)(7) إلاَّ أنَّ القراءة لا تُخالَف لأنَّها السنَّةُ(8) وإنْ رأى الرّفع في (ثمود) أجود.
استعانَ سيبويه بالقراءات النّادرة والحروف المخالفة في بناء أصوله مثلما استعان بالقراءات المعروفة، وهو من طوّعها – كسائر المصادر – لمقاييسه، و توزّعت في مواقع مختلفة من كتابه.
فأجاز بقراءة بعضهم(9): (وإنْ تَبدُوا مَا فِي أَنفُسِكُم أو تخفُوه يُحَاسبْكُم بِه الله فَيَغْفـِرَ لِمـَن يَشَاءُ)(10) نَصْبَ (يغفر) التي عطفت على جواب الشّرط بإضمار(أنْ) بعد الفاء(11).
وأجاز بقراءة ناس(12) من الكوفيّين: "ثمَّ لننزعَنَّ مِن كلّ شيعةٍ أيَّهم أشدُّ على الرّحمَن عتيّاً"(13) نَصْبَ (أيّهم) على الإضافة. 
وعدَّ هذه القراءات مقياساً يقيس عليه، كقياسه مع الخليل قولهم: "لاسيَّما زيدٌ" على: (إنَّ الله لا يستَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مثلاً مَا بَعُوضَةٌ)(14) برفع (بعوضة)(15).
حتَّى إنّه في مواضع يعدّها أصلاً يخرج عليها القراءة المشهورة، كما فعل في قوله تعالى:  (هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيد)(16). قال: "فرفعه من وجهين: على شيء لديّ عتيد، وعلى: (وَهَذا بَعلِي شَيخٌ)(17). يريد: أنَّ (عتيد) مرفوع على النّعت من (ما)، أو على أنَّه خبر لمبتدأ محذوف. أي: هو عتيد(18).
ومجمل القول: إنَّ سيبويه كان وفياً لسنّة القراءة، لا يبخل عن وصف بعضها بالقوة- إنْ توفَّرت لها شروط القوة أو الحسن- إنْ وافَقت الذّائع المَعروف مِن كلامِ العربِ- الّذي يتوخّى فيه ضبط لغة القرآن وصونها من التّحريف.
أمَّا الأخفش (سعيد بن مسعدة ت211هـ)، فقد عُرِف باحترامه رسم القرآن(19)، ومع ذلك ما كان ليتورَّع عن رفض كثير من القراءات المشهورة ووصفها باللّحن(20) والرّداءة (21) بل قل اعتمد في كثير من الأحيان على القراءات النّادرة الّتي انفرد برواية كثير منها(22)، وفضّلها على المشهورة، إذ يرى – مثلاً – أنَّ نَصْبَ (طائفة) الثانيـة من قولـه تعالى: (يَغشَى طائفةً مِنكـُم وطَائفَـةٌ قد أهمَّتهُم)(23)، وهي من القراءات التي انفرد بها.
ومع أنّ الأخفش ليسَ ذا موقفٍ واحدٍ من القراءات النادرة والشاذة، إذْ كان يخضعها لمقياسه، يقبل بعضها، ويرفضُ بعضَها الآخر، وما كان ليرفض قراءة الجمهور، فهو يفضِّل في قوله تعالى: (ثمّ آتَينَا مُوسَى الكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الّذِي أَحْسَنَ)(24) فتح النون، على قراءة بعضهم بالرّفع(25)، مكتفياً بالقول: "وفتحه على الفعل أحسن"(26).
أمَّا المبرّد محمد بن يزيد (ت285هـ)، فأخضع القراءات المشهور منها والنّادر إلى مقياسه النّحوي ضارباً الصّفح عن سنّتها متعلّلاً بضرورة التّحليق بأسلوب القرآن، وحَمله على أشرف المذاهب في العربيّة(27). إضافة لذلك دعا لتجنُّب الأخذ بالقراءات الشاذة لما في ذلك من ضرر على اللغة والنّحو، ومن هنا كان قوله المعروف: "إذا جعلت النّوادر والشّواذ غرضك كثرت زَلاتك"(28). ومع ذلك فإنَّ رفض المبرّد بعض القراءات- حتّى المشهور منها- ووصفه لها باللَّحن(29) والغلط(30) والقبح(31)، وعدم الجواز(32)، وحَمْل بعضها على الضّرورة الشعريّة(33) لا يعني أنّه لم يرتض قراءات أخرى، فهو ارتضى كلّ ما وافق مذهبه. فقراءة ابن عباس: (لَم يَمْسَسْهُ نارٌ)(34) بعدم إلحاق تاء التّأنيث للفعل مقبولة عنده؛ لأنَّ فاعله مؤنّث غير حقيقي(35).
يضاف إلى ذلك أنَّ المبرّد اعتدَّ بالحروف المخالفة وخرّجها، خرّج حرف أُبَي: (تُقَاتِلُونَهُم أو يُسلِمُوا)(36) على معنى: "إلاَّ أن يُسلمُوا وحتَّى يُسلمُوا ".
وصفوة القول: إنَّ المبرد قَبِلَ ما وافق مذهبه النّحوي، ورفض ما لم يوافقه، ووقف من بعضها موقف الحذر، واحتجَّ لِمَا أخذه أحياناً بالقرآن والشّعر.
والكسائي النحوي والقارئ هو من احتجّ بالقراءات، وأيّد بها كلّ ما ينتهي إليه من لغات العرب وأشعارها دون أن يخرج على المقياس النّحوي، فقرأ (يقول) في قوله تعالى: (وَزُلزِلُوا حتّى يقولَ الرَّسُولُ)(37) بالرّفع، ثمَّ عاد إلى النَّصب(38).
وعُرف عنه أنَّه ما كان ليتشدَّد في موقفه من الرَّسم(39) القرآني، عندما كان يُقبِل على تَخريج القراءات، ومع ذلك كان يقف من بعض القراءات موقف الحذر، فيقول – مثلاً – لا أعرف(40). أمَّا القراءات النادرة فقبلها بل قُل وبنى عليها بعض القواعد الجديدة، فأجاز قراءة: (إنَّ الله ومَلائِكَتُه يُصَلُّونَ عَلَى النّبي)(41) برفع الملائكة(42) بالعطف على اسم (إنَّ) قبل مجيء الخبر(43)، وهو من قبل قراءة (أطهرَ) بالنّصب وخرّجها على الحال(44). يضاف إلى ما سبق أنَّ الكسائي وجّه بعض القراءات موضّحاً رأيه النّحوي فيها، فوجّه قراءة(45) مجاهد: (كُتِبَ عَلَيكُم الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الّذينَ مِن قَبلِكُم شهرُ رمضانَ)(46) على معنَى: "كُتبَ عَليكُم الصّيامُ، وأن تصومُوا شهـرَ رمضانَ"(47).
وهكذا فالكسائي كغيره من النّحاة ما كان يطعن في القراءة- ولو كانت بعيدة- بل كان يجد لها مخرجاً يجعلها مقبولة في الاستعمال النّحوي واللغوي.
و الفرّاء يحيى بن زياد (ت207هـ) نحوي شُغف بلغة القرآن وقراءاته، بل قُل هو من أكثر النّحاة ولعاً بفنونه، ومن أقواله: "الكتابُ أعرب وأقوى في الحجَّةِ من الشّعر"(48).
وهو من ارتضى القراءات المشهورة، ما خلا بعضها(49) التي أعمل فيها مقياسه فأباها، وإن كان موقفه العام التَّسليم والإجلال. أمَّا القراءات غير المشهورة، فهي عندهُ ثلاثةُ أنواع: الحروف المخالفة، والقراءات الأحادية وغير المشهورة، والوجوه النحويّة التي أجازها في الآيات، وكان معظمها قراءات شاذّة.
واستخدمَ في حديثهِ عَنِ القراءات: (قراءة بعضهم)، وأكثَرَ مِن استخدامها إكثاراً واضحاً، ومن ذلك قوله في قراءة قوله تعالى: (كَبُرَتْ كَلِمَةٌ)(50) ورفعها بعضُهم(51).
ووصفَ بعضَ القراءات بالقلّة، كقوله في قراءة: (مَا كانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُتَّخَذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَولِيَاء)(52):
"والقرّاء مُجتَمِعةً على نَصبِ: نتَّخِذَ إلاّ أَبَا جَعفَر المدني، فإنّه قرأ بالضمّ. وهو على شذوذه وقلّة مَن قرأ به قد يجوز"(53).
أمَّا ثعلب أبو العباس أحمد بن يحيى (ت391هـ)، فتبع أساتذته في كلّ ما يقولون، وسار على نهجهم في النظر إلى القراءات، بل قُل كان يفوقهم احتراماً لها. قال: "إذا اختلف الإعرابان في القراءات لم أفضّل إعراباً على إعراب، فإذا خرجت إلى كلام النّاس فضَّلت الأقوى"(54).
أمّا القراءات النادرة، فموقفه لا يخرج عن موقف سابقيه في قبولها، فتراه يذهب إلى ما ذهب
إليه سيبويه في حذف المبتدأ لـ (شيخ) في حرف ابن مسعود: (وَهَذَا بَعلِي شَيخٌ)(55). قال: "إذا كان مدحاً أو ذمّاً استأنفوه"(56)، ويسير على نهج الكسائـي في تخريجه لقـراءة(57) الحسـن: (لا يُحِبُّ اللهُ الجهرَ بالسُّوءِ مِن القولِ إلاَّ مَن ظَلَم)(58) ببناء (ظلم) للمعلوم. قال: "قال الكسائي: هذا استثناء يعرض، ومعنى يعرض استثناء منقطع"(59).
من هذا المنظور أرى أنَّ ثعلباً ما كان ليخرج عن دائرة القبول للقراءات المشهور منها والنادر عن أساليب سابقيه في معالجتهم لها وإخضاعها للقياس، بل قُل كان مثلهم في إخضاعها للقواعد النّحوية، وتطويعها بما يناسب المقياس النّحوي الذي يرى فيه كغيره من النّحاة الفيصل في عملية القبول والرّفض لهذه القراءة أو تلك.
القراءات القرآنية والإعراب:
ممّا لا شك فيه أنّ الصّلة بين القراءات القرآنية – المشهور منها والنادر – والإعراب متينة، ولعلّ في قول الدكتور عبد العال سالم مكرم ما يؤكّد ذلك: "إنَّ النّحاة الأُوَل الّذين نشأ النّحو على أيديهم كانوا قرّاءً: كأبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر الثقفي، ويونس، والخليل، ولعلَّ اهتمامهم بهذه القراءات وجّههم إلى الدراسة النّحوية، ليلائمُوا بين القراءات والعربيّة، بين ما سمعُوا وروَوا من القراءات، وبين ما سمعُوا ورَووا من كلام العرب"(60).
والقرآن الكريم – في قراءاته – خير حافظ للّغات واللّهجات، والفضل في ذلك يرجع إلى عناية القرّاء وتدقيقهم في الضّبط وتخريجهم في التلقّي حتّى إنّهم ليراعون اليسير من الخلاف ويلقّنونه ويدوّنونه(61).
هكذا كانَ احتواء القرآن للتغيّرات الإعرابية التي تطرأ بتغيّر القبائل، ومثل ذلك: إعمال (ما) عَمَل (ليس) عند الحجازيين، وإهمالها عند التّميميّين، في قوله تعالـى: (مَا هُنَّ أمَّهاتِهم)(62). أمَّا مسألة (ضمير الفصل)، فبنو تميم لا يهملونه، بل يعدّونه مبتدأ، ويرفعون ما بعده على الخبر(63). قرأ بها الأعمش وزيد بن علي الآية: (إنْ كانَ هَذا هُو الحقّ مِن عِندكَ)(64).
ومن المسائل التي احتواها القرآن تبعاً للتغيّرات الإعرابية التي طرأت عليها بتغيّر القبائل إلزام المثنّى الألف، وهي لهجة بلحارث بن كعب وزيد وبعض بني عذرة، ونسبها الزجاج إلى كنانة، وابن جني إلى بعض بني ربيعة، فهؤلاء كلّهم يلزمون المثنّى الألف ويعربونه بحركات مقدّرة عليها، وبه قرأ ابن كثير(65) الآية: (إنَّ هَذانِ لَسَاحِرَانِ)(66)، وقرأ أبو سعيد الخدري(67): (فَكَان أَبَواهُ مُؤمِنَان)(68).
وهكذا فالقرآن الكريم الذي عُرِف عنه بأنّه معرب، وهل أدلّ على ذلك من قول الرسول الكريم مخاطباً المسلمين: "أعربُوا القرآنَ والتمسُوا غرائبَه "، فطلبه هذا دليل قاطع بأنَّ القرآن معرب، وإعراب القرآن ضرورة يقتضيها المعنى مثل ذلك قوله تعالى: (إنَّمـَا يَخشَى الله مـِن عِبَادِه العُلمَاء)(69)، وقوله: (أَنَّ الله بَريءٌ مِنَ المُشرِكِينَ ورَسولَه)(70)، وقوله عزّ وجل: (وَإذَا ابتَلى إبراهِيم رَبّه)(71). هذه الآيات وغيرها لا تفهم الفهم الذي من أجله أنزلت إلاَّ بالإعراب.
ومن هنا كان اعتماد النّحاة في كثير من شواهدهم على القرآن الكريم، فسيبويه ضمَّن كتابه سبعةً وخمسين ومائة شاهدٍ من شواهد القرآن الكريم، وهي تصل إلى أكثر من 60% من مجموع شواهده التي بلغت ستَّةً وتسعين وثلاثمئة شاهدٍ، وهذه النّسبة المرتفعة من شواهد القرآن التي اعتمد عليها سيبويه تدلّ على مدى اهتمامه بالقرآن الكريم لتكون آياته حجّة لعلماء اللغة والنّحو.
ولم يكن الفرّاء أقلّ اهتماماً بالقرآن والقراءات من سيبويه، فهو قد ألّف كتاب (معاني القرآن)، وهو(72) يعني فيه بما كان يشكل في القرآن، ويحتاج إلى بعض العناء في فهمه. وهو- أيضاً- من ربط المعنى بالإعراب، ففي قوله تعالـى: (وزُلزِلُوا حتَّى يقولَ الرّسُولُ)(73). يقول الفـرّاء: "قرأها القرّاء بالنّصب إلاَّ مجاهداً وبعض أهل المدينة- هو: نافع ـ، فإنّهما رفعاها. ولها وجهان في العربيّة: نَصْبٌ ورَفْعٌ. أمَّا النَّصب، فلأنَّ الفعل الذي قبلها ممّا يتطاول كالتّرداد، فإن كان الفعل على ذلك المعنى نُصب الفعل بعده بـ: حتّى، وهو في المعنى ماض، فإذا كان الفعل الذي قبل (حتّى) لا يتطاول، وهو فعل ماض رفع الفعل بعد: حتّى إذا كان ماضياً، فأمّا الفعل الذي يتطاول وهو ماض، فقولك: جعل فلان يديم النّظر حتّى يعرفك، ألا ترى أنّ إدامة النّظر تطول، فإذا طال من قبل: حتّى ذهب بما بعدها إلى النّصب، إن كان ماضياً بتطاوله"(74).
وهكذا رأيت أنَّ النّصب عند الفرّاء دليله على أنّ الفعل قبلها "ممّا يتطاول كالتّرداد"، أي: المستمر يتردّد، ولم ينقطع، وهو في الوقت نفسه ماض؛ أي: استمرت الزلزلة، ودامت إلى أن قال الرسول وهكذا يكون النّصب عنده دليلَ الاستقبال.
ونظراً لأهميّة إعراب القرآن، فإنّ كثيراً من النحاة مَن صنَّفوا في إعرابه الكتب، ومن الأوائل منهم: "قطرب أبو علي محمد بن مستنير (ت 206هـ)، وأبو مروان عبد الملك بن حبيب القرطبي (ت 239هـ)، وحاتم سهل بن محمد السجستاني، (ت 248هـ)، وأبو العباس محمـد بن يزيد المبـرّد ت286هـ)، وأبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب ت291هـ)، وأبو البركات الأنباري، (ت 328هـ)، وأبو جعفر بن النحاس (ت 338هـ)، وأبو عبد الله بن خالويه (ت 370هـ)، ومكي بن أبي طالب القيسي (ت 437هـ)، وأبو زكريا التبريزي (ت 502هـ)، وأبو القاسم إسماعيل بن محمد الأصفهاني (ت 535هـ)، وأبو الحسن علي بن إبراهيم الحوفي (ت 562هـ)، وأبو البقاء العكبري (ت 616هـ)، ومنتجب الدين الهمذاني (ت 643هـ)، وأبو إسحق الفاقي (ت 742ه)ـ"(75).
وصفوة القول: إنّي أرى أنّ هناك تلازماً بين النّحو والقرآن الكريم، فالنحويّ لا غنى له عن القرآن إذ هو مادة استشهاده للقواعد النحوية، ولا عجب في ذلك التلاحم بين النحو والقرآن الكريم وقراءاته، فالقرآن هو من هذّب اللسان العربي من وحشي الكلام وغريبه، وممّا يخرج عن الفصاحة. قال ابن خالويه: "قد أجمع النَّاس أنّ اللغة إذا وردت في القرآن فهي أفصح ممّا في غيره"(76).
والقرآن الكريم هو من خلّص اللغة العربية من شتات اللّهجات الكثيرة، وهو إضافة لذلك جعل من اللّغة العربية لغة عالميّة تنطق بها الأمم، إذ تغلغلت في الهند والصين وأفغانستان، وحسبنا ما نعلمه من مشاهير العلماء من تلك البلاد، مثل: البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، والقزويني، وغيرهم الكثير.
يضاف إلى ذلك أنَّ القرآن الكريم كان له الفضل الكبير في تقعيد اللغـة وضبطـها، وهكـذا- وبكل اطمئنان- يمكن أنْ أعدَّ القرآن الكريم بمنزلة الروح من الجسد بالنّسبة للّغة العربيّة، بل قل بفضله سادت اللّغة العربيّة وتهذّبت، وضُبِطت قواعدها، واتّصلت حلقات عصورها، وانفتحت للعلوم والمعارف، وحفظت وحدتها.
أمّا القراءات القرآنية التي تعاورها النّحاة، فكانت مادة من مواد الدّرس النّحوي؛ لأنّها- وإن تفاوتت النّظرة إليها، واختلفت الآراء في رفضها وقبولها ـأحدثت نوعاً من التفاعل البنّاء بين النّحاة، وما الاختلاف فيها إلاّ السبيل والمنطلق إلى لغة قرآنية سليمةٍ من كلّ زللٍ أو لحنٍ قد يقع فيه من يجهل القراءات القرآنية وما هي عليه من سلامةٍ في اللغة، فالقرآن الكريم الذي جاء على سبعة أحرف كلٌّ منها شافٍ وافٍ، لا سبيل لتخطئة قراءاته إذا ما توافرت لها شروط القراءة الصّحيحة، ولم تخرج عن مقاييس اللّغة نثرها وشعرها.
___________________________
الهوامش:
(1) مباحث في علوم القرآن د. صبحي الصالح، ص 250.
(2) النشر في القراءات العشر 1/ 10، 11.
(3) يوسف: 31.
(4) كتاب سيبويه 1/ 28.
(5) كتاب سيبويه 1/ 28.
(6) القمر: 49.
(7) فصّلت: 16.
(8) كتاب سيبويه 1/ 74.
(9) قراءة ابن عباس والأعرج، البحر المحيط 2/ 360.
(10) البقرة: 284. (فيغفرُ).
(11) كتاب سيبويه 3/ 90.
(12) قراءة معاذ الهراء وطلحة بن مصرف، مختصر في شواذ القرآن، ص 86.
(13) مريم: 69. (أيُّهم).
(14) البقرة: 26.
(15) قراءة رؤبة بن العجاج، مختصر في شواذ القرآن، ص 1.
(16) ق: 33.
(17) هود: 72. (شيخاً).
(18) كتاب سيبويه 2/ 106.
(19) حرصه على رسم القرآن في معاني الأخفش، ص 61، 62.
(20) معاني القرآن للأخفش، ص 247.
(21) معاني القرآن للأخفش، ص 329.
(22) من الروايات التي انفرد بها رواية (فاطِرُ) (الأنعام 6 / 14)، و(أقولُ لكُما) (الأعراف 7 / 22).
(23) آل عمران: 154.
(24) الأنعام: 154.
(25) قراءة يحيى بن يعمر، المحتسب 1/ 234.
(26) معاني القرآن للأخفش، ص 203.
(27) الكامل في اللّغة والأدب 3/ 39.
(28) الأشباه والنظائر 3/ 49.
(29) المقتضب 2/ 134.
(30) مشكل إعراب القرآن 2/ 141.
(31) إعراب القرآن للنحاس 3/ 198.
(32) إعراب القرآن للنحّاس 1/ 184.
(33) المقتضب 2/ 171.
(34) النور: 35. (تمسسهُ).
(35) الجامع لأحكام القرآن 12/ 262.
(36) الفتح: 16. (يسلمون).
(37) البقرة: 214. (يقولَ).
(38) معاني القرآن للفراء 1/ 133.
(39) الجامع لأحكام القرآن 14/ 352.
(40) معاني القرآن للفرّاء 2/ 377.
(41) الأحزاب: 56.
(42) رواية عبد الوارث عن أبي عمرو. مختصر في شواذ القرآن، ص 120.
(43) إعراب القرآن للنحاس 2/ 645.
(44) جامع البيان عن تأويل آي القرآن 15/ 415، 416.
(45) مختصر في شواذ القرآن، ص 12.
(46) البقرة: 183.
(47) إعراب القرآن للنحاس 1/ 237.
(48) معاني القرآن للفراء 1/ 14.
(49) موقفه في معاني القرآن للفرّاء 2/ 81، 82.
(50) الكهف: 5. ( كَلِمَةً ).
(51) معاني القرآن للفرّاء 1 / 269.
(52) الفرقان: 18. ( نَتَّخِذَ ).
(53) معاني القرآن للفرّاء 2 / 264.
(54) الإتقان في علوم القرآن 1 / 83.
(55) هود: 72. (شيخاً).
(56) مجالس ثعلب 2/ 360.
(57) مختصر في شواذ القرآن، ص 30.
(58) النساء: 148. (ظُلِمَ).
(59) مجالس ثعلب 1/ 270.
(60) القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية، د. عبد العال سالم مكرم، ص 77.
(61) من مقال للدكتور عبد الحليم النجار، مجلة كلية الآداب جامعة عين شمس، 1963م، ص 12.
(62) المجادلة: 2.
(63) البحر المحيط لأبي حيّان الأندلسي 8/ 27.
(64) الأنفال: 32.
(65) النشر في القراءات العشر لابن الجزري 2/ 321.
(66) طه: 63.
(67) البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 6/ 255.
(68) الكهف: 80.
(69) فاطر 35 / 28.
(70) التوبة: 3.
(71) البقرة: 124
(72) معاني القرآن للفرّاء، ص 11
(73) البقرة: 214
(74) معاني القرآن للفرّاء 1/ 132.
(75) إعراب القرآن للزجّاج، ص 1093
(76) قول ابن خالويه في المزهر في علوم اللغة العربية للسيوطي 1/ 129.

المصدر: مجلة جامعة تشرين للدراسات والبحوث العلمية- سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية المجلد (28) العدد (1) 2006م

اللسانيات في الدراسات القرآنية الجديدة

يشير المستشرق الفرنسي المعروف روجيه أرنالديز (Roger Arnaldez) إلى أن العلماء المسلمين كانوا استطاعوا بمفاهيمهم "تحريك النصوص القرآنية وإنعاشها بتفاسيرهم" إلى درجة "يصعب علينا اليوم حتى باسم العلوم الإنسانية أن نجد فيها شيئاً آخر جديداً غير الذي وجدوه"! وبالتالي فإن "المسلمين المحدثين الذي يستعيرون المناهج الغربية كان أحرى بهم أن يكتفوا بمناهج أسلافهم من القدماء، فهي توصلهم بالدقة نفسها. لأن يستخلصوا من الآيات القرآنية ما توصلهم إليه هذه المناهج التابعة للعلوم الإنسانية". كلام أرنالديز جاء في معرض رده على محمد أركون. من هذا المنطلق فإن السؤال عن الحاجة إلى اللسانيات اليوم هو سؤال مشروع، وهو الأكثر جذريّة فيما يتعلق باستثمار المعارف اللغوية الجديدة في دراسة القرآن الكريم.
يثبت الواقع التاريخي أن المناهج التي اعتمدت في تفسير القرآن حتى الآن في الإطار الإسلامي إلى ما قبل المدرسة الإصلاحية وعصر النهضة نهاية القرن التاسع عشر لم تعد تنتج من التفسير إلاّ تكراراً لما قيل في القرون الستة الهجرية الأولى، وتتوقف الفروقات على نكاتٍ بلاغية ولغوية تقريباً، ولم تعد هذه التفسيرات تلبي التطلعات والتساؤلات التي يطرحها الإنسان المعاصر؛ لهذا السبب برزت الحاجة لابتكار مناهج في التفسير، الأمر الذي ولَّد في منتصف القرن الماضي منهج التفسير الموضوعي، وحيث إيمان المسلمين بأن الزمن أهم مفسّر للقرآن (كما أثر عن ابن مسعود )، فهو نصٌّ يتجاوز دوماً المنهج بقدر ما يفتح للمنهج آفاقاً لقراءته، فالقول بإحاطة الإنسان بمعاني القرآن قولٌ لا يمكن الجزم به، فكل ما يحيط به الإنسان من المعرفة القرآنية سيكون إحاطة مرتبطة بحدود معارفه وتصوراته التاريخية، ففي الحين الذي نجد فيه النص لم يعد يتفسّر أكثر مما فسر به، ولم يعد يُقرأ إلاّ بما فُسّر به وقُرِئ، فإن ذلك مؤشر على نفاد طاقة المنهج؛ إذاً فالبحث عن منهج جديدٍ وتطوير المنهج في دراسة النص القرآني يمثل حاجة تاريخية ودينية معاً؛ إذ يمثل القرآن الرسالة الخاتمة للعالمين.
لكن ذلك لا يعني بالضرورة – أيضاً- القطيعة مع المناهج القديمة، ذلك أن المناهج التي بنيت في التراث الإسلامي قامت على ضوء معايشتها للنص القرآني، وعلى وعي حقيقي بموقعه بوصفه نصَّاً إلهياً، والفهوم التي ولدتها تلك المناهج إذا كانت تختلف في الجزئيات فإنها في المجموع لا تتناقض، بل تتكامل، بحيث يُعد تجاوز أو تجاهل ذلك الإرث العلمي الضخم في تفسير القرآن ومناهجه خسارة جسيمة في حق مناهج البحث والتأويل المعاصر للقرآن، وبتراً لتراكم المعرفة من ناحية ثانية.
وبالرغم من أن التفكير اللساني العربي أفرز درساً شمولياً كونياً عن اللغة يتجاوز الخصوصية العربية، بل و"قادهم النظر أيضاً إلى الكشف عن كثير من أسرار الظاهرة اللسانية مما لم تهتد إليه البشرية إلاّ مؤخراً" وذلك - على حد تعبير اللساني التونسي عبد السلام المسدي- فليس هذا مثار استغراب؛ إذ أن يهتدي العرب المسلمون "إلى أخص خصائص الكلام بعدما تجمعت لديهم مصادر المنهج العقلاني، وطرق البحث الأصولي فذلك أمر طبيعي، بل لعله يكون عجيباً أن تكفَّ حضارة من الحضارات تدرَّعت بسلطان العلم على ظاهرة اللسان في ذاتها، فلا تهتدي إلى نفس المحصول من الحضارة والأسرار"، حيث كان النص القرآني مركز علومها، ويندرج في صلب التفكير اللغوي، لكن بالرغم من ذلك كله فإن اللسانيات قدمت نظريات وابتكرت مناهج وكشفت قوانين وعلوماً ما كان الفكر العربي يفكر بها، وهو أمرٌ طبيعي؛ ذلك أنها وليدة المنظومة الثقافية الغربية في ظل حضارة مختلفة المقومات، إن هذا الإنجاز الذي قدمته اللسانيات الحديثة - بالرغم من أنه يطرح إشكالية إبستمولوجية حقيقية - هو ما يفرض علينا استثماره وتطويعه بالقدر الممكن لخدمة المعرفة القرآنية، فنحن أمام الأسئلة التي يمكن أن يفرضها هذا الاستثمار والتطويع يجب أن ننطلق من استخدام ما تم إنجازه في المعرفة اللسانية في الغرب مع وعيٍ بهذه الأسئلة والمشكلات؛ لنتجنب نهاياتها الفلسفية باستمرار، ذلك أن النص القرآني بوصفه رسالة عالميةً تستمر في العطاء لكل العصور يتطلب الإيمان بقدرته على التفاعل مع مختلف الأنساق الحضارية والمناهج المعرفية.
وبقدر ما تبدو هذه التجربة فرصة لتطوير البحث العلمي في دراسة القرآن وتفسيره، فإنها أيضاً فرصة مهمة لاختبار جديّ لهذه العلوم عندما تنتقل إلى مجال النص الديني، واللغة العربية على وجه الخصوص (كما يشير أركون)، وبالتالي فإن هذه التجربة في أقل درجاتها تكشف عن الحدود الممكنة لاستخدام هذه العلوم ونتائج استخدامها، فبالإضافة إلى ما يجب أن يقوم به الباحث من استخدام اللسانيات لبناء قواعد وأسس لتحليل النص القرآني وتفسيره، فإن الباحث يجري أيضاً نقداً لمجموع التجارب التي درست القرآن الكريم باستخدام اللسانيات - على قلتها - في الفصل الأخير، للكشف عن العيوب التي حكمت تلك التطبيقات، أو استكشاف مدى دقتها العلمية وملاحظاتها المنهجية. 
وفضلاً عن ذلك كله فإنه من حيث المبدأ يجب - ولا أقول "يجوز" فقط - على المسلمين استغلال كل ما توفره المعرفة الإنسانية (واللغوية منها على وجه الخصوص) لفهم كتابهم الكريم؛ ذلك أن تحقيق المعاصرة والشهادة على العصر يقتضي الاستفادة مما وصل إليه العصر نفسه، وإن كانت هذه الاستفادة محكومة - كما أسلفنا - بخصائص القرآن الكريم (باعتباره "إلهيَّ المصدر"، و"عربي اللغة"، و"رسالة هدي للعالمين")، ولا ينبغي أن نستغرب ما سيؤول إليه هذا الاستخدام للمعارف الحديثة، فثمة نتيجتان حتميتان لذلك تنتظراننا:
أولاهما: الاهتداء إلى معان لم يكن قد فُكِّر بها من قبل.
وثانيهما: الكشف عن عيوب في الفهوم السالفة والجهود التفسيرية التراثية على وجه العموم، وهي بطبيعة الحال جهود بشرية مهما قلنا عن ضرورة احترامها فإن هذا الاحترام الكبير لن يرقى إلى التقديس بالتأكيد.
بهذا المعنى فإن حاجتنا إلى اللسانيات اليوم في دراسة القرآن الكريم هي حاجة لتعاملنا مع العصر الحديث وإنجازاته المعرفية وهي في الوقت ذاته رهاننا لدخول هذا العصر بقوة معرفتنا لا بعنادنا على مواجهته وحسب.