مواضيع الاسبوع

علوم التصحيح في اللغة دكتور احمد كروم

22.2.15

"السيميولوجيا"

في بداية القرن الماضي بشر عالم اللسانيات السويسري فردناند دو سوسير بميلاد علم جديد أطلق عليه اسم "السيميولوجيا"، ستكون مهمته، كما جاء في دروسه التي نشرت بعد وفاته ( 1916)، هي "دراسة حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية". ولقد كانت الغاية المعلنة والضمنية للسيميولوجيا هي تزويدنا بمعرفة جديدة ستساعدنا، لا محالة، على فهم أفضل لمناطق هامة من الإنساني والاجتماعي ظلت مهملة لوجودها خارج دائرة التصنيفات المعرفية التقليدية. وفي نفس الفترة التاريخية تقريبا، كان الفيلسوف الأمريكي شارل سندرس بورس، في الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي، يدعو الناس إلى تبني رؤية جديدة في التعاطي مع الشأن الإنساني وفي صياغة تخومه وتحديد حجمه وقياس امتداداته فيما يحيط به. وقد أطلق على هذه الرؤية اسم السميوطيقا ( التي نتبنى هنا الاسم المعرب لها وهو السميائيات .(
وعلى الرغم من اختلاف التسميتين واختلاف المنطلقات الإبستمولوجية، فإن السميائيات ستشيع، عند المؤسسين معا، حالة وعي معرفي جديد لا حد لامتداداته. فقد تبنت نتائجها النظرية والتطبيقية علوم كثيرة كالأنتروبولوجيا والسوسيولوجيا والتحليل النفسي والتاريخ، والخطاب الحقوقي وكل ما له صلة بالآداب والفنون البصرية وغيرها. بل لقد شكلت السميائيات، منذ الخمسينات من القرن الماضي، في المجال الأدبي، تيارا فكريا أثرى الممارسة النقدية المعاصرة وأمدها بأشكال جديدة لتصنيف الوقائع الأدبية وفهمها وتأويلها.
لقد فتحت السميائيات أمام الباحثين، في مجالات متعددة، آفاقا جديدة لتناول المنتوج الإنساني من زوايا نظر جديدة. بل يمكن القول، كما أشرنا إلى ذلك في الفقرة السابقة، إن السميائيات ساهمت بقدر كبير في تجديد الوعي النقدي من خلال إعادة النظر في طريقة التعاطي مع قضايا المعنى. ولقد قدمت في هذا المجال مقترحات هامة عملت على نقل القراءة النقدية من وضع الانطباع والانفعال العرضي الزائل والكلام الإنشائي الذي يقف عند الوصف المباشر للوقائع النصية، إلى التحليل المؤسس معرفيا وجماليا. فالنصوص، كل النصوص كيفما كانت مواد تعبيرها، يجب النظر إليها باعتبارها إجراءَ دلاليا لا تجميعا لعلامات متنافرة. والسميائيات صريحة في هذا المجال، فهي تسلم بوحدة الظاهرة الدلالية؛ كيفما كانت لغتها وكيفما كان شكل تجليها.
إن حالة النضج التي وصلت إليها السيمائيات استدعت التفكير في كتابة تاريخ يرسم الخط التصاعدي لهذا العلم الجديد. ولقد حاول بعض الباحثين ( وكذا بعض المجلات المتخصصة في فرنسا مثلا (1) ) استعادة لحظات التأسيس والنمو والتعدد والانفجار من خلال تحديد أهم المحطات التي عرفتها السميائيات. وكان هناك ما يدعو إلى ذلك، فلقد تشعبت الدراسات السميائية وتنوعت وظهرت داخلها تيارات ذهبت بالتحليل في جميع الاتجاهات، ووسعت من دائرته ليشمل كل المناطق التي تغطي الوجود الإنساني بدءا باللسان وانتهاء بكل مظاهر السلوك الإنساني : اللغة واللباس والعلاقات الاجتماعية والطقوس الأسطورية والدينية. فكان لا بد من التمييز والفصل بين ما ينتمي حقا إلى السميائيات وبين وما يستعير منها بعض أدواتها فقط، وبين ما لا علاقة له بها على الإطلاق.
وعلى الرغم من ذلك، فإن كتابة تاريخ علم ما ليس بالأمر الهين، خاصة إذا كان هذا العلم ينتمي إلى ميدان الإنسانيات المعروفة بتنوع جهات نظرها، بل بتناقضاتها الدائمة والمستمرة. ولهذا فإن، كتابة تاريخ للسميائيات، أو حتى محاولة تحديد بعض محطاتها الكبرى أمر بالغ الصعوبة، ويثير حوله الكثير من الجدل، بل قد يؤدي إلى الكثير من سوء الفهم. فالسميائيات ليست تيارا واحدا منسجما، وليست فكرة معزولة، كما أنها ليست نظرية جاهزة محددة من خلال مفاهيم موحَدة وموحِدة. إنها على العكس من ذلك حالة وعي معرفي عُرف بامتداداته في حقول معرفية متعددة. فالسميائيات في نهاية المطاف، وبكثير من التبسيط، ليست سوى تساؤلات تخص الطريقة التي ينتج بها الإنسان سلوكاته أي معانيه، وهي أيضا الطريقة التي يستهلك بها هذه المعاني. وربما كان هذا التنوع من الأسباب التي فجرت هذا الحقل في تيارات متعددة ومتميزة عن بعضها البعض بل ومتناقضة فيما بينها في أحيان كثيرة.فبالإمكان الحديث عن سميائيات للمسرح وسميائيات للصورة الفوتوغرافية وأخرى للإشهار، كما يمكن أن نتحدث عن سميائيات " لليومي" وأخرى للخطاب السياسي وثالثة للسرد ورابعة للشعر الخ. والأكيد أن هذه التصنيفات المتنوعة لا تعود إلى طبيعة المعاني التي تنتجها الأشكال التعبيرية المختلفة، فالمعاني لا تتحدد بجواهرها، بل تعود إلى الإكراهات التي يفرضها نمط بناء كل شكل تعبيري على حده. فالسميائيات في جميع هذه الحالات هي بحث في المعنى لا من حيث أصوله وجوهره، بل من حيث انبثاقه عن عمليات التنصيص المتعددة، أي بحث في أصول السميوز ( السيرورة التي تُنتج وفقها الدلالات ) وأنماط وجودها باعتبارها الوعاء الذي تصب فيه السلوكات الإنسانية.
انطلاقا من هذه المسلمة يمكن تصور تاريخ للسميائيات يتقفى أثر هذه السيرورة كما يتم تحقيقها في مجالات متعددة. فما يوحد هو أيضا ما يفصل ويعزل ويميز. فإذا كانت المنطلقات المعرفية المشتركة الأولى هي ما يسمح لنا بالحديث عن هوية واحدة للسميائيات، فإن كثرة النماذج التي ارتبطت بميلادها أو بمرحلة من مراحل نموها قد يجعل من هذه الهوية كيانا مطاطيا وقابلا للتكيف مع طبيعة النموذج المرتبط بها، ويمكن في هذا المجال استحضار الطريقة التي استخدم بها كلود ليفي شتراوس المفاهيم اللسانية التي جاء بها سوسير من أجل دراسة علاقات القرابة، أو محاولة الباحثة السميائية البلجيكية نيكول إفرات دسمنت قراءة مقولات الرمزي والواقعي والمخيالي استناد إلي المقولات الفينومينولوجية التي اعتمدها بورس كأساس فلسفي لصياغة تصوره للعلامة.
ومع ذلك، وعلى الرغم من أن السميائيات ارتبطت بنماذج عدة : اللسانيات والفلسفة والمنطق والأنتروبولوجيا والفينومينولوجيا، فإنها حافظت على كيان مستقل بخصائص تميزها عن هذه النماذج وتفصلها عنها. فلقد استطاع هذاالنشاط المعرفي أن يخلق لنفسه موضوعا للدرس وأن يحدد أساليب في التصور والتحليل.
استنادا إلى ذلك، فإن أي تاريخ محتمل لهذا النشاط المعرفي الجديد يفترض بشكل قبلي، وربما كشرط أساس، تحديد المنابع الأولى التي شكلت منطلق السميائيات وقاعدتها المعرفية. فالتعرف على هذه الأصول وتحديدها هو المدخل الرئيس لفهم كل الامتدادات اللاحقة. فالأصول المشتركة قد لا تقود حتما إلى تطورات من نفس النوع والحجم والعمق والطبيعة إلا أنها تساعدنا على فهم طبيعة كل التطورات اللاحقة. وعلى سبيل المثال، فقد أنكر الداعون إلى "سميائيات للتواصل" وجود شيء اسمه "سميائيات الدلالة" ( برييتو، أريك بيوسنس، جورج مونان ...)، ولم يستصغ أصحاب "سميائيات الدلالة" ( بارث، گريماص، إيكو) إمكانية استقلال الواقعة الإبلاغية عن السيرورة الدلالية ومنطقها. ولقد احتج التياران معا بتعاليم سوسير ذاتها، ووجد فيها التياران معا ما يدعم وجهة نظرهما. استنادا إلى هذا التمييز يمكن تناول تاريخ السميائيات من زوايتين : تتعلق الأولى بتقديم عرض واف عن التصورات الأولى المؤسسة للسميائيات، وتتعلق الثانية بتحديد موضوعاتها المتنوعة. فاستحضار النماذج المؤسسة سيمكننا من تجنب الإغراق في التفاصيل الدقيقة الخاصة بكل تيار على حدة، وسيمكننا الحديث عن الامتدادات من حصر الموضوع في التصور الذي تقدمه السميائيات عن السميوز ( السيرورة الدلالية ) باعتبارها الحجر الأساس في أي فعل سميائي. استنادا إلى مرحلتي التأسيس هاتين يمكن صياغة تواريخ لسميائيات متعددة. فبالإمكان الحديث عن تاريخ للسميائيات السردية، كما يمكن أن نكتب تاريخا لسميائيات الصورة وأخرى للمسرح وهكذا دواليك. فلقد تطورت، استنادا إلى مقترحات سوسير وبورس في مجال دراسة العلامة، توجهات سميائية متعددة. لذا فإننا، في انتقالنا من واقعة إلى أخرى، نجد أنفسنا أمام سلسلة من المفاهيم التي لا تخص في واقع الأمر سوى هذا المتن دون سواه.
ونحن في هذا الكتاب التزمنا موقف الحياد الإيجابي، فعرضنا لجهة نظر المؤسسين : بورس وسوسير وموقعهما من التطورات التي عرفتها السميائيات في الثلث الأخير من القرن العشرين، لكننا حددنا جهة نظرنا ونحن نقدم النماذج التطبيقية معلنين انحيازنا المطلق إلى سميائيات تأويلية ترى في النص خزانا من الاحتمالات الدلالية، لا تجميعا كميا لعلامات. فالسميائيات هي كشف واستكشاف لعلاقات دلالية غير مرئية من خلال التجلي المباشر للواقعة. إنها تدريب للعين على التقاط الضمني والمتواري والمتمنع، لا مجرد الاكتفاء بتسمية المناطق أو التعبير عن مكونات المتن.
ولقد قسمنا كتابنا هذا إلى أربعة فصول. تناولنا في الفصل الأول، وبشكل مفارق، السميائيات من حيث الموضوع والأصول الفلسفية العامة والامتداد في التاريخ القديم والحديث. لنعود من جديد في الفصل الثاني إلى عرض التصور السوسيري للسميولوجيا، فكشفنا عن تصوره للسان وتحديده للعلامة اللسانية ومكوناتها وطبيعتها، فهذه المعرفة اللسانية هي التي ستستند إليها السيمولوجيا من أجل مقاربة موضوعها.
أما في الفصل الثالث فعرضنا لتصور بورس للسميائيات، والسميائيات عنده لا تنفصل عن الفينومينولوجيا وعن المنطق، ودون فهم هذه الإواليات التأسيسة لا يمكن فهم الاشتغال السميائي للوقائع الإنسانية التي تشكل في رمتها نسيجا لامتناهيا من العلامات.
أما في الفصل الثالث فعرضنا لسميولوجيا الصورة، وحاولنا من جهة، البحث عن الأسس اللسانية وموقعها في قراءة الصورة، ثم عرضنا بعد ذلك لإشكاليات إدراك الصورة، لننهي هذا الفصل بفقرات حول الطريقة التي تنتج به الصورة دلالاتها.
أما في الفصل الرابع فقدمنا دراسة لنمط آخر في وجود السميوز، ويتعلق الأمر بدراسة الجسد واللغة الإيمائية. فهذه اللغة المنبعثة من جسد كلي الوجود لا يمكن أن تكشف عن طاقاتها التدليلية إلا من خلال استحضار نص الثقافة من جهة، والدفع بالأعضاء للاستقلال عن بعضها البعض لكي تتحول إلى بؤرة دلالية لا حد لامتداداتها.
ونتمنى أن يجد القراء في هذا الكتاب ما يساعدهم على الاقتراب من ميدان معرفي له اقتراحاته في قراءة الوقائع الإنسانية ومحاورتها ومحاولة فهم الإنسان من خلال هذه الوقائع

0 التعليقات:

إرسال تعليق