مواضيع الاسبوع

علوم التصحيح في اللغة دكتور احمد كروم

15.2.15

قراءة لسانية للنحو العربي

لن يختلف اثنان من القراء والدارسين في أن ما قام به الدارس التونسي عزالدين مجدوب، في أطروحته اولاً ثم في كتابه "المنوال النحوي العربي: قراءة لسانية جديدة" الصادر اخيراً عن كلية الآداب بسوسة التونسية وعن دار محمد علي الحامي، جديد في مقاربته ويتسم بجدة النظر إلى موضوع طالما شغل الدارسين المعنيين بالنحو العربي. فالدارسون "التراثيون" لا يتوانون عن إصدار الكتب والدراسات التي تجد أن ما حصل في شؤون النحو قديماً لا يمكن النظر فيه، بل النهل منه فحسب، على أن علمهم هذا اللاحق تدبيري الطابع، ذرائـعي، يأتي بالجديد لتأكيد أحقية القديم، ليس إلا. أما الدارسون "المحدثون" فتراهم يصدرون الكتاب تلو الكتاب للتعامل مع النحو كما لو أنه متن من دون أساس يفسره، فيسقطون عليه من معين الدراسات الأوروبية منظوراً يعيقه بدل أن يعقله.
كتاب الباحث التونسي يتخذ وجهة أخرى مغايرة، وهي أنه يعود بالنحو العربي إلى أساسه الموجود، وإن غير المعروض كفاية، ولكن بعد أن يعرضه على نظريات اللسانية الحديثة من جهة، وعليها في دراسات المحدثين العرب من جهة ثانية. وهو في عرضه هذا لا يعالج النحو من زاوية لسانية فحسب، وإنما من زاوية تاريخية-اجتماعية كذلك قلما ينتبه إليها الدارسون. ويقوم الدارس لهذا الغرض بعرض مركب يقوده إلى الوقوف على دراسات المحدثين في النحو، ثم يسعى - في مقاربة لها سمة معرفية و"تأصيلية" في آن - إلى دراسة النحو العربي في وحداته المكونة له، وعلى ضوء النظريات الحديثة، ولا سيما عند العالم اللساني لويس هيلمسيلف.
تقوم دراسة الدكتور مجدوب على مفهوم أساسي هو "التجريبية"، ويريد منه الإشارة إلى "قلة التنظير للممارسة النحوية العملية وعدم وعي الباحث بالمسلمات التي ينطلق منها وعدم تفكيره فيما يقتضيه التسليم بها من مستلزمات ونتائج فرعية". وهو تعريف ينتهي إليه بعد مراجعة عهدي التطور اللذين عرفتهما دراسات النحو العربي عند المحدثين. وهي دراسات تعود الى الثلث الثاني من القرن الجاري، وتتوزع في منحيين: منحى في مقاربة التراث النحوي لا ينتسب صراحة إلى علم اللسانيات، ومنحى آخر ينتسب إليه صراحة، ولكن من دون إغفال جانبه التجريبي. ويمثل المنحى الأول أقدم المحاولات المحدثة، ويتعرض له الدارس التونسي في أعمال الدارسين العربيين: ابراهيم مصطفى ومهدي المخزومي.
كتاب مصطفى "إحياء النحو" 1937 يمثل أولى المحاولات هذه، بل هو "أول مقاربة نقدية شاملة للتراث النحوي" ما لبث أن اتبعها الكثيرون وتقيدوا بأهدافها وأقوالها. وهي لا تعد بحق - على قيمتها - إعادة نظر علمية في النحو، طالما أن مشاغل التدريس وهواجسه التطبيقية هي التي شغلت بال النحوي وقبل أي شيء آخر. ويفسر صاحب الكتاب هذا المنحى "في حاجة اجتماعية ولدتها النهضة"، وهي قضية التعليم ونشره وما استلزمته من مقتضيات أهمها ملاءمة التراث النحوي لمقتضيات التدريس على نحو يخالف السنن المتبعة في معاهد التعليم التقليدية، مثل الجامع الأزهر أو جامع الزيتونة وغيرهما.
وهذا ما نتبع اثاره في أعمال العديد من "النهضويين"، من أمثال رفاعة الطهطاوي في "التحفة المكتبية في تقريب العربية"، أو "الوسيلة الأدبية لعلوم العربية" لحسين المرصفي، أو "قواعد اللغة العربية" لحفني ناصف، أو "فصل الخطاب في فصول لغة الإعراب" لناصيف اليازجي، أو العديد من كتب أحمد فارس الشدياق. وهي، وغيرها، كتب سعت إلى تقريب العربية من نفوس متعلميها، ولا سيما بعد انتقال التعليم إلى صيغة "عصرية" وانقضاء عهد "العلماء" في صيغه الإسلامية التقليدية المتحلقة حول الجامع.
ويعني هذا أنه تحكمت بالكتب هذه، وبوضعها، مساع تفسيرية وتوجيهية عزز منها العمل على "تيسير" قبول العربية وتعلمها، وأمام ضغوطات اللغات الأجنبية وإغراءاتها الشديدة.
أما الباحث العراقي مهدي المخزومي فقد طور طريقة أستاذه إبراهيم مصطفى وحسن منها، إلا أنه خلط بدوره بين العلم ومناحيه التطبيقية من جهة، كما واصل الجمع بين تيسير النحو وإعادة النظر في منهجه من جهة ثانية. واستتبع ذلك، وفق عبارة جميلة للدكتور المجدوب، "مماهاة مغلوطة" بين مقتضيات التدريس ومقتضيات البحث النظري. لكن الجديد عند المخزومي هو أن تأثير اللسانيات أوضح فيه من أستاذه، وإن لم يبلغ تأثير هذا العلم مبلغاً يجعله ينتسب إليه مثلما نلقى آثار ذلك في إنتاجات المنحى الثاني في دراسة النحو العربي.
ويوزع الدارس التونسي هذا المنحى على اتجاهين مستمرين حتى أيامنا هذه، فيطلق على الأول تسمية "الاتجاه التاريخي المقارن"، وعلى الثاني "الاتجاه الوصفي". ومثل الاتجاه الأول بأعمال الباحث المصري إبراهيم أنيس، ولا سيما في كتابه "من أسرار اللغة"، واجداً أنه "أدخل التراث النحوي في جدل" مع علم اللسانيات، عدا أنه رسخ الاعتقاد بأن اللغوي العربي لا يمكن أن يقتصر في دراسة العربية على ما قاله القدماء فحسب، بل ينبغي له أن يأخذ بعين الاعتبار ما يقوله غيرهم من غير العرب. أي أن أنيس، حسب الكاتب مجدوب، "رسخ الاعتقاد بأن العربية لا يمكن أن تدرس بالاقتصار عليها بل يجب تنزيلها وتنزيل ظواهرها ضمن الألسنة التي تشبهها وضمن الألسنة عموماً".
وفي هذا نقلة نوعية أكيدة، وإن لم تسلم من النواقض الناتجة عن عواقب تطبيق اللسانيات الأوروبية على العربية. وهي نقلة تعززها قراءة الدارس التونسي لإنتاج الباحث النحوي تمام حسان الذي يعد صاحب "أوفى قراءة للتراث النحوي العربي" في كتبه العديدة وإسهاماته اللافتة. ويتحقق الباحث التونسي من "حدود عمل" هذا الباحث المتميز، عارضاً لكيفيات تقبله للسانية، وهو تقبل يشي بتصور "وثوقي" للحقيقة العلمية. أي أن حسان يتقبل العلم اللساني الأوروبي كما ورد، من دون تاريخيته، أو تبين حدوده كذلك: "فتمام حسان كان مواصلة لمدرسة التيسير وتثبيتاً لغاياتها أكثر مما كان قطعاً معها وانتساباً للسانيات عند نقد التراث النحوي، وإن كان استعماله للسانيات في صياغة هذه الأهداف أو صياغة بعض مآخذ الميسرين، يوهم بخلاف ذلك".
ويخلص الدارس التونسي، من استعراضه التاريخي-النحوي للإسهامات العربية المحدثة، إلى الوقوف عند العطب الأساسي في هذه المساعي وهو كونها لم تميز كفاية بين النظرية العامة وبين "المنوالات" أي النماذج، عدا أن الدراسات هذه لم تسلم أبداً من مساع تيسيرية وتعليمية، لا تنظيرية في المقام الأول والأخير. وهو، بالتالي، التمهيد اللازم للدارس التونسي لكي ينصرف إلى قراءة تراثية ولسانية في آن للنحو العربي، تقيه من مصاعب سابقيه.
واستدعت منه هذه القراءة عودة واسعة إلى متون اللسانية الحديثة، ولا سيما عند هيلمسيليف في تمييزه بين الفرضيات والمنوالات، لدراسة النحو العربي. وعودة أخرى إلى مكونات النحو العربي في الجملة وأقسام الكلام والوظائف النحوية وغيرها، هادفاً من ذلك كله - على وعورته لغير النحويين - الوصول إلى القول الشهير التالي: "ينبغي قبل كل شيء أن نفهم أن النحو القديم لا يمثل نظرية علمية بنى عليها النحاة ممارسة، إنما العكس هو الصحيح. فالنحو القديم ممارسة لا غير، بل هو مجرد ممارسة حاول النحاة تبريرها بعد أن اكتملت نظرية بعضها على جانب كبير من البساطة".

0 التعليقات:

إرسال تعليق