مواضيع الاسبوع

علوم التصحيح في اللغة دكتور احمد كروم

10.8.12

اللسانيات في الثقافة العربية وإشكالية التلقي: حافظ إسماعيلي العلوي


0. توطئة:
الكتابة التمهيدية (أو التيسيرية) طريقة في التأليف لا يمكن لأي علم أن يذيع وينتشر بدونها؛ لذلك من الطبيعي أن يشكل هذا النوع من التأليف إحدى الاهتمامات الأساسية لنشر العلوم وتقريبها إلى القراء. فهل نجحت الكتابة اللسانية التمهيدية العربية في تقريب اللسانيات إلى القارئ العربي؟
تشكل الغاية التعليمية الهدف الذي تروم تحقيقه اللسانيات التمهيدية، وهذا يستوجب أن يكون كل مؤلف من المؤلفات اللسانية التمهيدية بنية خطابية متكاملة علميا ومنهجيا، بدءا بعنوان الكتاب، مرورا بمقدمته، وعناوين أقسامه، وأبوابه، وفصوله، وصولا إلى خاتمته. وسنحاول بتتبعنا لبعض المؤلفات اللسانية التمهيدية أن نكشف عن إشاراتها الخارجية والداخلية، وما تحمله من وظائف دلالية وتداولية معتمدين، في ذلك، منطلقا في التحليل يركز على العتبات (seuils) أساسا قد يسعفنا في إرساء قواعد جديدة للكشف عن تجليات حضور هذا النوع من الكتابة في الثقافة العربية الحديثة، وسنركز، بشكل خاص، على عناوين المؤلفات اللسانية التمهيدية وخطاب المقدمات.
فقد أولت المناهج الحديثة والمعاصرة، في نظريات القراءة، وسيميائيات النص، وجماليات التلقي، أهمية كبيرة لعنوان النص ومقدمته، واعتبرتهما مكونين أساسين، ودالين؛ فقد جعلهما جيرار جينيت (Gérard Génétte) من النصوص الموازية Paratextes الدالة التي ترافق النصوص الرئيسة[1]والتي لا يمكن الاستغناء أو التغاضي عنها.
وتكمن أهمية هذين المكونين (العنوان والمقدمة) في كونهما أول المؤشرات التي تتحاور مع المتلقي، فتثير فيه نوعا من الإغراء، والفضول العلمي والمعرفي، وإليهما توكل مهمة نجاح الكتاب في إثارة استجابة القارئ بالإقبال عليه وتداوله، أو النفور منه واستهجانه.
أولا. العنوان:
العنوان مكون نصي لا يقل أهمية عن المكونات النصية الأخرى، إنه سلطة النص وواجهته الإعلامية، وهذه السلطة تمارس على المتلقي »إكراها أدبيا، كما أنه الجزء الدال من النص»[2]، وهذا ما يؤهله »للكشف عن طبيعة النص والإسهام في فك غموضه»[3]، بل يعين مجموع النص ويظهر معناه. وهذا يعني أن العنوان هو مرآة النسيج النصي، وهو الدافع للقراءة، وهو الشرك الذي ينصب لاقتناص المتلقي، ومن ثم فإن الأهمية التي يحظى بها العنوان نابعة من اعتباره مفتاحا في التعامل مع النص في بعديه الدلالي والرمزي[4]؛ بحيث لا يمكن لأي قارئ أن يلج عوالم النص أو الكتاب، وتفكيك بنياته التركيبية والدلالية، واستكشاف مدلولاته ومقاصدها التداولية، دون امتلاك المفتاح؛ أعني العنوان.
وعليه فالعنوان هو الثريا التي تضيء فضاء النص، وتقود إلى استكشاف أغواره، فيكون بكل ذلك ضرورة كتابية تساعد على اقتحام عوالم النص؛ لأن المتلقي »يدخل إلى "العمل" من بوابة "العنوان" مؤولا له، وموظفا خلفيته المعرفية في استنطاق دواله الفقيرة عددا وقواعد تركيب وسياقا، وكثيرا ما كانت دلالية العمل هي ناتج تأويل عنوانه، أو يمكن اعتبارها كذلك دون إطلاق[5]«، كما يستمد العنوان أهميته من كونه علامة كاملة تحمل دالا ومدلولا.
ولا تخضع العناوين لبنية تركيبية متماثلة إلا في حالات نادرة، وتتوزع بين الطول والقصر والتوسط، وتتألف من كلمة واحدة أو كلمتين أو أكثر، وقد تكون عنوانا رئيسا فقط، وقد تجمع بين عنوان رئيس وعنوان فرع، وقد تكون غير هذا. ويقسم جنيت (Génétte) العنوان إلى» 1. العنوان (الأساس أو الرئيس)، 2.العنوان الفرعي3 .التعيين الجنسي« [6].
ثانيا. المقدمة:
المتلقي هو الغائب الحاضر في كل عملية تأليف، والمقدمة هي الصورة المثالية التي يتطلع الكاتب إلى إنجازها؛ إذ عليها يترتب نجاح التلقي أو فشله، وإليها توكل مهمة »توجيه القراءة وتنظيمها، وبالتالي تهييء القارئ لاستقبال مشروع قيد الإنجاز، سيكونمجاله-لا محالة- متن الكتاب. وهذا يعني أن المقدمة هي نوع من التعاقد بين المؤلف والقارئ»[7].
ولم تكن أهمية المقدمة لتخفى على النقاد العرب القدامى، فهي قديمة أصيلة في الثقافة العربية، فقد حددها ابن منظور لغة بقوله: »من قدم بمعنى تقدم، وقدم استعير لكل شيء، فقيل مقدمة الكتاب، ومقدمة الكلام بكسر الدال»[8]. أما اصطلاحا فهي ما يتوقف عليه المباحث الآتية، مباحث الكتاب طبعا.
للمقدمة إذن، وظيفة إقامة الاتصال (phatique) التي قال بها مالينوفسكي (Malinovski) وتبناها رومان ياكوبسون (Jakobson.R)، حيث اعتبرها من الرسائل التي تؤدي إلى ربط التواصل أو إطالته أو قطعه[9]. وبذلك تكون المقدمة بمثابة العتبة أو المدخل أو البهو الذي يلج منه المتلقي إلى دهاليز النص أو الكتاب ليمسك بخيوطه الأولية والأساسية ليتحاور معه[10]. ولهذه الأهمية يعتبرها ج.جينيت (G.Génétte) من النصوص الموازية للنصوص الرئيسية، وعنصرا من عناصر التعالي النصي (Transtextualité)، ومنجما من الأسئلة التي ليست لها أجوبة، وجنسا قائما بذاته له مبادئه التكوينية ومميزاته التجنيسية[11].
1. قراءة في عتبات الكتابة اللسانية التمهيدية
1.1. العناوين:
تحضر الغاية التعليمية بكثافة في الكتابة اللسانية التمهيدية، كما يظهر من هذه العناوين التي نسوقها هنا تمثيلا لا حصرا:
(علم اللغة)، علي عبد الواحد وافي
(علم اللغة: مقدمة للقارئ العربي)، محمود السعران
(علم اللغة العام)،توفيق محمد شاهين
(في علم اللغة العام)، عبد الصبور شاهين
(اللسانيات التوليدية والتحويلية)، عادل فاخوري
(الألسنية (علم اللغة الحديث) المبادئ والأعلام، ميشال زكريا
(المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث فيه)، رمضان عبد التواب
(مدخل في اللسانيات)، صالح الكشو
(مدخل إلى علم اللغة)، محمد فهمي حجازي
(مدخل إلى علم اللغة)، محمد علي الخولي
(مدخل للسانيات سوسير)، مبارك حنون
(مدخل للصواتة التوليدية)، ادريس السغروشني
(دروس في السيميائيات)، مبارك حنون
(مقدمة في علوم اللغة)، البدراوي زهران
(مقدمة في اللسانيات)، عاطف فضل
(مقدمة في اللسانيات)، عيسى برهومة
(توطئة لدراسة علم اللغة)، التهامي الراجي
(مبادئ اللسانيات)، أحمد محمد قدور
(مبادئ اللسانيات)، خولة طالب الإبراهيمي
(مبادئ اللسانيات البنوية)، الطيب دبة
(مدارس علم اللغات)، المعتمد بن رشد ومحمد خريص
(اللسانيات العامة واللسانيات العربية)، عبد العزيز حليلي
(اللسانيات الوظيفية: مدخل نظري)، أحمد المتوكل
1.1.1.3. وظائف العناوين
تعد العناوين منطلقات ضرورية للقراءة بالنظر إلى الوظائف التي تؤديها، والتي يحددها جيرار جينيت في »أربع وظائف هي: الإغراء-الإيحاء-الوصف-التعيين« [12]. ونجد من الباحثين من يذهب أبعد من ذلك، حيث يتم الربط بين الوظائف التي يؤديها العنوان ووظائف اللغة كما يحددها ياكوبسون، فيعطي العنوان بذلك وظائف أخرى هي: »الوظيفة المرجعية (المركزة على الموضوع)، والوظيفة الندائية (المركزة على المرسل إليه)، والوظيفة الشعرية (المركزة على الرسالة)؛ "وقد تتسع هذه الوظائف لدى هنري ميتران (Henri Mitterand) لتشمل"الوظيفة التعيينية، والوظيفة التحريضية (حث فضول المرسل إليه ومناداته)، والوظيفة الإيديولوجية""وهي جميعها تسور العنوان بسلطة تروم إخضاع المرسل إليه»[13].
إن العنوان هو البنية الرحمية لكل نص؛ تمارس على المتلقي إكراها أدبيا يسهم بشكل أو بآخر في توجيه عملية القراءة. فكيف تحضر الوظائف السابقة في الكتابة اللسانية التمهيدية؟
1.1.1.1. الوظيفة التواصلية
إن الهدف من الوظيفة التواصلية هو تبئير انتباه المتلقي وربط نوع من التواصل بينه وبين المقروء، إضافة إلى خلق نوع من التقارب بينهما؛ لتحريض المتلقي على القراءة والتلقي، ومحاولة تقليص المسافة بينه وبين الكتاب، وهي وظيفة تؤديها عناوين الكتابة اللسانية التمهيدية بدون استثناء.
2.1.1.1. الوظيفة الانفعالية/ التأثيرية/ الإغرائية
إن متلقي الكتابة اللسانية التمهيدية قارئ مبتدئ غايته التعرف على مبادئ اللسانيات باعتبارها علما جديدا، لذلك يجب على من يؤلف في هذا اللون من الكتابة أن يختار ما يراه مناسبا لجلب القارئ، وإثارة انتباهه، وإغرائه بعبارات محبوكة توحي بالتبسيط والتسهيل، وتروم الانتفاع، لخلق نوع من التفاعل والانسجام بين النص والقارئ. وتؤدي عناوين الكتابة اللسانية التمهيدية هذه الوظيفة بدرجات مختلفة ومتفاوتة، كما يتم التركيز على كلمة مفتاح تشكل بؤرة العنوان وهدف الكتاب الأسمى، ونمثل لذلك بالعناوين الآتية (عنوان الكتاب متبوعا بالكلمة المبئرة):
مدخل إلى علم اللغة
مدخل للسانيات سوسير
مدخل في اللسانيات
مدخل إلى الألسنية
مدخل إلى السيميائيات السردية
مدخل للصواتة التوليدية
مدخل
المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث فيه
المدخل
مبادئ اللسانيات
مبادئ
علم اللغة مقدمة إلى القارئ العربي
مقدمة
توطئة لدراسة علم اللغة
توطئة
دروس في علم اللغة العام
دروس
فالكلمات المبئرة للعنوان تظهر بوضوح الرغبة في التأثير والتسهيل، وخلق نوع من تجاوب القارئ والنص.
3.1.1.1. الوظيفة المرجعية/ الإحالية
هدفها تعيين موضوع الكتاب وتحديد غاياته، فتشكل هذه الوظيفة بذلك نوعا من التعاقد بين المؤلف والقارئ، وتؤدي عناوين الكتابة اللسانية التمهيدية هذه الوظيفة بطرائق مختلفة:
- الإحالة على اللسانيات بطريقة عامة:
+ مدخل إلى علم اللغة
+ مدخل إلى الألسنية
+ توطئة في علم اللغة
+ مبادئ في اللسانيات
+ مبادئ في علم اللسانيات الحديث...
- الإحالة على مدرسة لسانيات محددة:
+ اللسانيات البنيوية
+ اللسانيات الوظيفية
+ اللسانيات التوليدية التحويلية...
- الإحالة على قطاع خاص من قطاعات اللسانيات:
+ علم الأصوات
+ علم الدلالة
+ السيميائيات...
- الإحالة على فرع داخل قطاع معين:
+ مدخل للصواتة التوليدية
+ مدخل إلى السيميائيات السردية...
- التعريف بإسهامات علَم من أعلام اللسانيات:
+ مدخل للسانيات سوسير
+ النظرية الأمريكية في اللغة: تشومسكي...
4.1.1.1. الوظيفة الإيديولوجية
وهي ذات حضور لافت في كل المؤلفات التمهيدية التي تضع نصب عينيها هدفا معينا، سواء عبر عن ذلك المؤلف تصريحا أو تلميحا، وهذا ما تومئ إليه عناوين هذه الكتابة. ويأتي في طليعة تلك الأهداف التعريف باللسانيات باعتبارها علما قائم الذات. ويتخذ التعريف شكل تحديد شامل لأهداف ومقاصد اللسانيات، أو لأحد قطاعاتها، والهدف هو جعل القارئ ينخرط في دائرة البحث اللساني.
2.1. خطاب المقدمات
المقدمة إذن، هي الصورة المثالية التي يتطلع الكاتب إلى إنجازها؛ إذ عليها يترتب نجاح التلقي أو فشله، كما تؤدي وظائف مختلفة.
1.2.1. وظائف المقدمة
إذا كان العنوان يؤدي وظائف مختلفة انفعالية وتأثيرية وإغرائية، ومرجعية إحالية، وشعرية جمالية إيحائية، وإيديولوجية، وتاريخية إخبارية، فإن هذه الوظائف تحضر أيضا في خطاب مقدمات للكتابة اللسانية التمهيدية[14].
1.1.2.1. الوظيفة الانفعالية/ التأثيرية/ الإغرائية
تحضر هذه الوظيفة بشكل لافت في مقدمات الكتابة اللسانية التمهيدية بالتركيز على الغاية التعليمية التبسيطية، مع الإشارة إلى أهمية الدرس اللساني ومكانته.
2.1.2.1. الغاية التعليمية التبسيطية:
تمثل الغاية التعليمية الهدف الأسمى الذي يستأثر باهتمام كل مؤلف تمهيدي، ومن هذا المنطلق تلح مقدمات المؤلفات اللسانية التمهيدية على هذا الجانب، وتوليه ما يستحق من اهتمام، خصوصا وأن هذه المقدمات هي أول ما يقرأ، فتكون بمثابة تعاقد بين الكاتب والقارئ؛ تعاقد على الإقبال من لدن القارئ، وتسهيل وانتفاع من لدن الكاتب، فمن البديهي أن تعزف كل الكتابات التمهيدية على هذا الوتر الحساس عند القارئ، وأن تعبر عن ذلك بشكل صريح، كما تظهر هذه النصوص:«هدفنا الوحيد الجدوى التربوية والإبلاغ التعليمي، وبهذا الصنيع يغدو الكتاب أداة تثقيفية إذ بوسعه أن يمكن القارئ العادي من الاسترسال مع صفحاته متتبعا قصة اللسانيات في يسر، وعلى غير تراكب فني»[15].
وجاء في مقدمة كتاب تمهيدي آخر: «أقدم للقارئ العربي توطئة تساعده على معرفة اللغة، وتهيئه لتتبع الخطوات اللاحقة بيسر ومردود كبير« [16].
وإلى الغاية نفسها تشير كتابات تمهيدية أخرى. يقول صاحب كتاب مدخل إلى علم اللغة: »هذا كتاب يضم فصولا تمهيدية في علم اللغة، تقرب حقائقه الأساسية»[17]. وهو الغرض نفسه الذي يرومه عبد العزيز حليلي من تأليف كتابه. يقول: »الغرض من مواضيع هذه المجموعة التعريف بأسس اللسانيات العامة، ووصف بعض أدواتها الإجرائية وتوضيح أهم أهدافها، وكذا المساهمة في تطوير وإغناء أساليب بحثها»[18].
ولا تكتفي بعض الكتابات بمثل هذه الإشارات الواضحة، بل تسعى إلى إغراء المتلقي بعبارات محفزة لاستدراجه إلى خبايا المقروء، كما نقرأ في هذا النص: «قصدنا دعوة القارئ العربي إلى تذوق هذا العلم الحديث، والإلمام به، من أجل ذلك هو كتاب تمهيدي»[19].
إن الغاية التعليمية لا تقتصر على الكتابات التمهيدية ذات الصلة باللسانيات العامة، بل تظهر بوضوح في باقي أصناف الكتابة اللسانية التمهيدية كالصواتة التوليدية: »هذه الدراسة تمكن القارئ من التعرف على مختلف الاتجاهات الصواتية في إطار الصواتة التوليدية التي تكون جزءا من النحو التوليدي التحويلي»[20]، والسيميائيات: »لا أتوخى من هذا الكتاب سوى تقديم مجموعة من المعارف الضرورية والمفاهيم الأساسية للسيميائيات»[21].
وتظهر الغاية التعليمية بشكل أكثر كثافة في مقدمات الكتب اللسانية التمهيدية المترجمة، وربما يعود سبب ذلك إلى أن هذه الكتب موجهة، في الأصل، إلى قارئ غير القارئ العربي، إذ يلجأ المترجم إلى هذا التكثيف والتركيز لدرء كل أشكال الالتباس، ولاستقطاب أنظار القراء. جاء في مقدمة كتاب تمهيدي مترجم: «هو مرجع مبسط، ويصل إلى حقائق الاتصال الشفهي، دونما الكثير من التعقيد الذي تتميز به بعض الكتب الأخرى في هذا الموضوع، إذ إنه يحتوي على العديد من الصور والجداول والأشكال الإيضاحية، وهو مهتم بشكل رئيسي بكيفية إيصال الفكرة من دماغ المتكلم إلى دماغ المستمع»[22].
وإلى الهدف نفسه يشير مبارك حنون في تقديمه لأحد الكتب المترجمة، يقول:»ومن الأكيد أن القيام باختيار هذا النص وتعريبه يخدم هدفين اثنين: الهدف الأول ويكمن في تقديم المعارف الحديثة الجيدة وتعميمها على أوسع القراء، والهدف الثاني يتجلى في محاولة تأصيل هذا العمل وجعله جزءا لا يتجزأ من بنيتنا الثقافية عملا على استنهاضها، وذلك انطلاقا من معاودة النظر في مكوناتها، وفي بنائها على أسس معرفية صلبة وجديدة»[23].
تشير هذه النصوص المقتطفة من مقدمات بعض الكتابات اللسانية التمهيدية، إلى الوظيفة التعليمية التبسيطية باعتبارها وظيفة غايتها تقديم اللسانيات إلى القارئ المبتدئ، بالتركيز على مفاهيم غايتها الإثارة والإغراء وجلب المتلقي كما يظهر من خلال هذه العبارات: الجدوى التعليمية...، الإبلاغ التعليمي...، تهيئة (القارئ)...، تقرب حقائقه (علم اللسان)...، توطئة تساعده (المتلقي)...، تهيئه لتتبع...، تقرب حقائقه...، توضح أهم أهدافها (اللسانيات)...، تعريف الدارس المبتدئ بأصول... ومناهج... تذوق... هذه الدراسة تمكن القارئ... هو مرجع مبسط...[24].
ويتخذ حضور الوظيفة الانفعالية التأثيرية في التعريف باللسانيات أشكالا مختلفة:
أولا. تعريف اللسانيات بالإشارة إلى أهميتها:
تعرف اللسانيات في بعض الكتابات اللسانية التمهيدية بالإشارة إلى أهميتها، والمكانة التي تضطلع بها بين العلوم الإنسانية، فقد »أصبحت اللسانيات تحتل موقعا مركزيا داخل العلوم الإنسانية الشيء الذي جعلها تفرض عليها نموذجها التحليلي ومعجمها المفهومي« [25]، وتفسر تلك الأهمية بالإقبال المتزايد عليها، حيث«اكتسبت قضايا علم اللغة الحديث رواجا في الجامعات العربية، وأقبل كثير من الدارسين على متابعتها، والتخصص فيها، من حيث كانت مخرجا من الحائط المسدود الذي وقفت عنده دراسات النحو والصرف واللغة من بعيد« [26].
وقد شمل هذا الاهتمام كل مجالات البحث الإنساني، وأخذ» يزداد مع مرور الأيام كما وكيفا، وهذا ما يفسر حصول طفرة كبرى في عدد الكتب والأطروحات والمحاضرات والندوات في هذا الحقل المعرفي، مما يدل بدوره على مدى تأثير اللسانيات في الدراسات الأكاديمية والأبحاث العلمية« [27]. وهي أهمية تجعل اللسانيات في مقدمة كل العلوم الإنسانية مما يوجب، بل ويحتم، على القارئ الإلمام بمبادئها وأصولها إن هو أراد مسايرة الركب والانخراط في دائرة الثقافة المعاصرة.
على النهج نفسه تسير بعض الكتابات الأخرى، نقرأ في مقدمة كتاب تمهيدي يعرف بالنظرية التوليدية: »لا أقصد بهذه الترجمة أن أدعو إلى نظرية أو أروج لمذهب، وإنما هي محاولة لمعرفة نظرية علمية أثرت في الفكر اللغوي الإنساني أكثر من ربع قرن، وما زال أثرها واضحا، حتى اليوم، في دراسات وأبحاث علماء اللغة المعاصرين، حتى قيل إن مكانة أي نظرية لغوية لا يمكن أن تتجاهل نظرية تشومسكي، بل إن مكانة أي نظرية وإنجازها في حقل الدراسات اللغوية المعاصرة يتحدد بمدى صلتها بنظرية تشومسكي، قربا وبعدا، أو نقدا وتعديلا»[28].
ويشير إلى هذه الأهمية وهذه المكانة حمزة بن قبلان المزيني في تقديمه لترجمة أحد كتب تشومسكي: »يتبوأ نعام تشومسكي مكانة في تاريخ اللسانيات لا يدانيه فيها إلا القلة من العلماء. فلقد بدأ توجها جديدا في دراسة هذا الموضوع منذ أن نشر كتابه (البنى التركيبية) في سنة 1957، فأحدث بذلك ما يشبه الانفصال عن المناهج التي كانت تتبعها اللسانيات، وعن الأهداف التي كانت ترسمها لنفسها. فلم يعد الهدف وصف المادة اللغوية التي يجمعها الدارس، بل صار تفسيرا يقصد إلى اكتشاف ما يكمن وراء الظاهر الذي تمثله هذه المادة اللغوية. وكان هذا الهدف هو الدافع وراء كل التغيرات التي طرأت على اللسانيات منذ 1957م. فكل نموذج مقترح يقترب خطوة من ذلك الهدف، ذلك أنه يمهد السبيل إلى اقتراح نموذج آخر أكثر إحكاما وكفاءة« [29].
وهو النهج الذي يسلكه مؤلف آخر في إشارة واضحة إلى أهمية الدلائلية: «إن الاهتمام يتركز اليوم على "قطاعات" دلائلية أدنى ما تتصف به هو التعدد، والتنوع، والتباين، والتشعب، ويتوفر أغلبها على أعمال رائدة»[30].
فالإشارة إلى أهمية اللسانيات، أو أحد قطاعاتها يشكل بؤرة اهتمام الكتابة اللسانية التمهيدية دون استثناء.
ثانيا- تعريف اللسانيات من خلال موضوعها:
تقدم اللسانيات للقارئ العربي أيضا بالإشارة إلى موضوعها يقول علي عبد الواحد وافي:«موضوعات علم اللغة موضع عناية عدد كبير من أعلام الباحثين في أمم الغرب. وقد بذلت في هذا السبيل جهود قيمة مشكورة، بلغ بفضلها هذا العلم درجة راقية من النضج والكمال، فوضحت حدوده ومناهجه، وهذبت أساليبه وطرق دراسته، وتميزت فروعه بعضها من بعض، واختص في كل فرع منها عدد كبير من العلماء، فتوفروا على دراسته، وقتلوا مسائله بحثا. من ثم أصبحت مراجع هذا العلم من أكثر مراجع العلوم عددا، وأوسعها نطاقا، وأدقها بحثا، وأجلها قيمة« [31].

إن موضوع اللسانيات هو دراسة اللغة »واللغة التي تدور حولها مباحث علم اللغة وعلومها، وتتخذها موضوعا لدراستها ليست لغة بعينها، وإنما هي اللغة التي تتمثل في كل الكلام الإنساني، فالأصول والخصائص الجوهرية التي تجمع بين سائر اللغات في كل صورها هي موضوعات علم اللغة... وليست لغة بعينها بل اللغة من حيث هي وظيفة إنسانية عامة»[32].
وهذا ما يذهب إليه مؤلف كتاب (علم اللسان) عندما يشير إلى أن اللسانيات تدرس »كل أشكال اللغة وألوانها وتغيراتها وتطوراتها، وتركز اهتمامها على كل ما يرتبط بموهبة الكلام التي تميز الإنسان عمن سواه (...) ويهتم اللسانيون إلى جانب اللغات الحية -باللغات الميتة- التي لا تتكلم بها أية جماعة بشرية»[33].
بيد أننا نجد من يجعل موضوع اللسانيات أعم وأشمل، فهي »العلم الحديث الذي موضوعه اللغة في ذاتها، ولذاتها (وهو مفهوم فرديناند دو سوسور) وينطوي تحته كل المصطلحات المعروفة، وهي: علم اللهجات Dialéctologie، وعلم الاشتقاق التاريخي Etymologie، والنحو Grammaire، والمعاجم Lexicologie، والصرف Morphologie، والأعلام Onomastique، والفيلولوجيا Philologie، وعلم الأصوات العام Phonétique، وعلم الأصوات التشكيلي Phonologie ، وعلم الدلالة Sémantique، وعلم الأسلوبStylistique ، وأسماء البلدان Toponymie»[34].
إن أغلب التعريفات التي تقدمها الكتابة اللسانية التمهيدية تركز على موضوع اللسانيات، إلا أن الموضوع لا يقدم دائما بالدقة المطلوبة كما سنبين لاحقا.
ثالثا- تعريف اللسانيات من خلال منهجها:
نحا هذا المنحى غير واحد من مؤلفي الكتابة اللسانية التمهيدية؛ إذ تقدم اللسانيات إلى القارئ العربي باعتبارها منهجا علميا تطبعه الدقة والوضوح، فقد نجحت في »تطوير منهج "علمي" متماسك، له أدوات واضحة، وإجراءات قوية، ومصطلحات مستقرة، وقد أصبح علم اللغة دون نزاع سيد العلوم الاجتماعية، و"نموذجا" لتطبيق مناهج "العلم" عليها« [35].
إن منهج اللسانيات غير مسبوق في مجال الدراسات اللغوية، والسر في ذلك ما يعتمده من »مناهج ووسائل محدثة لا تقتصر على هذه اللغة دون غيرها»[36].
ثالثا- من مبادئ الدرس اللغوي إلى اللسانيات:
يأخذ التعريف باللسانيات، ومحاولة تقريبها من القارئ العربي شكل مقارنة بين مبادئها ومبادئ التراث اللغوي؛ إذ يعتقد أصحاب هذا التوجه أن من شأن ذلك مساعدة القارئ على فهم مبادئ اللسانيات الحديثة، وقد تحول ذلك إلى اقتناع يعبر عنه سامي عياد حنا وشرف الدين الراجحي بالقول: »اقتناعا بضرورة الربط بين التراث ومناهج علم اللغة الحديث، كان لا بد من المقارنة والمقابلة لعل في هذا تأصيل علم اللغة« [37].
وتحضر هذه الرغبة بحماس أكبر عند التهامي الراجي، يقول: »إن لنا -نحن العرب- في هذا الباب علما قديما، بل ركاما من هذا العلم، فهل من الصواب أن نفرط في هذا الكنز بدعوى أنه جد جديد في الموضوع؟ أفلا يكون من الرصانة أن نحاول ربط الماضي بالحاضر، لا سيما وأن هذا الماضي مشرق ووضاء (...) لهذا كان لزاما علينا أن نربط الحديث بالقديم»[38].
كثيرا ما نقع على مثل هذه الآراء، وإن كنا نجد مواقف أخرى تقف على طرف نقيض مع ما ذكرناه، حيث تعتبر التوفيق خلطا واضطرابا لا يساعد على فهم القارئ بل يشوش عليه و»لا ييسر له متابعة التصورات والمذاهب الحديثة في علم اللغة« [39]. والواقع أن الاتجاه الأول قد ساد في ثقافتنا العربية حتى غدا يشكل اتجاها قائم الذات، هو ما يعرف بلسانيات التراث[40].
وإذ اتضح أن تقديم اللسانيات إلى القارئ المبتدئ في الكتابة اللسانية التمهيدية يأخذ صورا مختلفة، فإن ذلك لا يعني الخروج عن المقاصد العامة التي ترومها تلك الكتابة، وهي تقريب اللسانيات من القارئ وإثارة انتباهه إليها باعتبارها معرفة حديثة، لتبقى تلك التعريفات متداخلة ومتكاملة، وكل تمييز بينها تمييز إجرائي لا غير.
3.1.2.1. الوظيفة المرجعية/ الإحالية
إن إحالة المؤلف على مصادره ومراجعه يكون بهدف كسب ثقة المتلقي واستدراجه إلى خبايا الكتاب، فمراجع الكتاب ومصادره تكسب الكتاب مصداقية أكبر عند القارئ، لأن أهمية المؤلف وقيمته تتحدد غالبا بالمصادر التي اعتمدها منطلقا في دراسته، ونعني بالمصادر هنا كل ما يعتمده الباحث في دراسته، »وتحدد هذه المصادر الأبحاث التي انطلق منها الباحث أو استند إليها للوصول إلى نتائج معينة. ويندرج في هذا السياق إحالات الباحث إلى غيره من الباحثين المشتغلين بنفس القضية، أو العاملين معه في نفس الحقل، أو في حقول معرفية أخرى يكون في حاجة إليها« [41].
وبتتبعنا لمصادر الكتابة اللسانية التمهيدية، يمكن أن نميز في مرجعياتها بين مرجعيتين:
o مرجعية غربية:
يتم التركيز -هنا- على مصدر واحد دون سواه، أو على مجموعة من المصادر الغربية، ويرجع ذلك إلى طبيعة الكتاب والمواضيع التي يعالجها، فإن كانت هذه المواضيع متنوعة كانت المصادر كذلك؛ أما إذا كان الموضوع يصب في اتجاه واحد فإن المصدر المعتمد يكون واحدا. وإن كانت هذه المسألة لا تحضر بهذا الشكل المعياري دائما.
يشير مؤلفا كتاب (علم اللسانيات الحديث) إلى مصادرهما بالقول: »إن الفلسفة والمبادئ التي يقوم عليها هذا الكتاب، والمحاور التي تدور حولها إطاراته النظرية مبنية على الأسس والأفكار والفلسفة التي يقوم عليها المرجع التالي:
R.H Robins,General Linguistics, An Introduction, third edition, New York, Longman Inc,1980. »[42]
o مرجعية مزدوجة:
تظهر ازدواجيتها في جمعها بين ما هو عربي وما هو غربي، (بين ما هو تراثي، وما هو حديث)، وتتعدى ذلك أحيانا إلى الجمع بين ما هو عام وما هو خاص. فأحمد محمد قدور، وهو مؤلف أحد الكتب التمهيدية، يشير إلى مصادره بالقول:»أما مصادر هذا الكتاب فهي مجموعة من المصادر الأجنبية المترجمة إلى العربية، ومجموعة أخرى من مصادر عربية لغوية متنوعة منها ما هو منحى لساني عام متأثر بالدرس الأجنبي، ومنها ما هو ذو منحى لغوي خاص بالعربية وعلومها. إضافة إلى جملة من الكتب القديمة والحديثة مما كان مجالا لاستمداد الأفكار الجزئية، أو الأمثلة والشواهد المتعددة، وهناك أيضا مجموعة من الدوريات العربية التي حوت دراسات مهمة، وكتبا أجنبية موضوعة باللغتين الإنجليزية والفرنسية« [43].
4.1.2.1. الوظيفة الإيديولوجية
إن الوظائف المحددة آنفا تعود لتأتلف وتتوحد لخدمة وظيفة أساس هي الوظيفة الإيديولوجية، وهي الوظيفة الاستراتيجية التي تصب فيها كل قنوات الوظائف الأخرى، وتتركز عليها أهداف الكاتب ومقاصده العامة؛ فالمؤلف يسعى جاهدا إلى جلب القارئ من خلال التأثير فيه، وحثه على اقتحام فضاءات النص، وكأنه يشير من خلال كل ما يقوله إلى القارئ بالقول: «ألا يستحق ذلك محاولة القراءة و المناقشة؟»[44].
ويغلب على مقدمات الكتب اللسانية التمهيدية كل أشكال الإشادة بمزاياها وتفردها موضوعا ومنهجا، وهي دعوة صريحة إلى الإقبال على قراءة الكتاب وتبني أفكاره.
5.1.2.1. الوظيفة الإخبارية/ التقويمية/ النقدية
لا تخلو الكتابة اللسانية التمهيدية من وظائف إخبارية تفيدنا كثيرا في تكوين صورة، ولو عامة، عما يطبع اللسانيات داخل ثقافتنا من قضايا وإشكالات، ومن المعطيات التي نستشفها:
المعطى الأول: اختلاف اللسانيين حول تصورهم للبحث اللساني، وهو اختلاف يتعدى حدود الاختلافات القائمة بين المدارس والتوجهات اللسانية -لأنه لو كان كذلك لكان اختلافا مشروعا- إلى اختلافات في الأصول والمبادئ، وهذا مكمن الإشكال.
المعطى الثاني: تخلف اللسانيات في الثقافة العربية، مقارنة مع مثيلاتها في الغرب، وهذا ما يستنتج من مضمون الكتب اللسانية التمهيدية.
المعطى الثالث: غياب التنسيق بين اللسانيين داخل القطر الواحد، وداخل الأقطار العربية عموما.
المعطى الرابع: عدم مراعاة "القطائع" في مجال اللسانيات، التي خلخلت الكثير من معطيات علم اللغة التقليدي، ويترتب على ذلك عدم مراعاة "نقطة اللاعودة التي يبدأ منها علم ما".
المعطى الخامس: الخلل المنهجي في التحليل، وهذا يجعل الكثير من الكتابات التي تنسب نفسها إلى اللسانيات بعيدة كليا عن البحث اللساني بمعناه العلمي الدقيق.
إن المعطيات السابقة، وإن عرضناها بإيجاز، تلوح بإشكالات البحث اللساني في الثقافة العربية، لتؤكد ما ذهبنا إليه في المباحث السابقة؛ حيث عرضنا لبعض عوائق البحث اللساني العربي ولبعض إشكالاته. وهذا يحملنا على الظن أن العوائق المطروحة أكبر من أن تحصر في جوانب معينة، لكن السؤال الهام هنا هو: ألا تتحمل الكتابة اللسانية التمهيدية، في بعض جوانبها، قسطا من المسؤولية في تخلف البحث اللساني العربي، خصوصا وأن هذا النوع من الكتابة موكول إليه -قبل غيره من أصناف الكتابة اللسانية الأخرى- مهمة إنارة المتلقي العربي، وتزويده بمعرفة سليمة منهجا وموضوعا. فهل نجحت الكتابة اللسانية التمهيدية في مسعاها هذا؟ وهل كانت وفية لتعاقداتها مع القارئ؟ أم أن الشعارات التي تفيض بها عناوينها وخطاب مقدماتها ردود متشنجة تتستر بها على نقائصها؟ هذا ما سنجيب عنه في المبحث الموالي الذي سنخصصه لإشكالات التلقي في الكتابة اللسانية التمهيدية.
2. إشكالات التلقي في الكتابة اللسانية التمهيدية
تبلغ العناية بالقارئ ذروتها في جمالية التلقي، ويبدو أن ما أولته الكتابة اللسانية التمهيدية من عناية بمتلقيها لا يخرج عن ذلك، لكن الملاحظ أن عناية جمالية التلقي بقارئها تتأسس على مبدإ التفاعل بين النص والقارئ وعلى ناتج التلقي. وناتج التلقي هو ما سنتوقف عنده من خلال التساؤل التالي: هل يخدم ناتج التلقي في الكتابة اللسانية التمهيدية الغايات التي سطرتها هذه الكتابات؟ وهل جاء مستجيبا لها؟ أو لنقل بتعبير أدق: إذا كان القارئ يعيد النظر في تنظيم ما يتلقاه ليخدم وظيفة معقودة قبلا (الوظيفة التعليمية التبسيطية هنا)، ليصل إلى فهم ترتضيه الذات القارئة وترتاح إليه، فهل نجحت الكتابة اللسانية التمهيدية في تحقيق هذا الهدف؟
إن الإجابة عن هذه التساؤلات تقتضي بالضرورة متابعة متأنية لمحتوى الكتابات اللسانية التمهيدية، والربط بينها وبين ما تشير إليه عناوينها وخطاب مقدماتها، وسنعتمد في تحليلنا على ما تسميه نظرية التلقي: الوقع والتلقي باعتبارهما »حجرا الزاوية لنقد استجابة القارئ حيث تجمع مناهجهما بين (التلقي) الاجتماعي التاريخي و(الواقع) النظري النصي، ولا يمكن لنقد استجابة القارئ أن يكون مثمرا إلا إذا كان تياراه المختلفان هذان يتضافران ويتفاعلان« [45].
يفتح التلقي آفاقا واسعة لدراسة المؤلفات، والنصوص، والكشف عن إمكانياتها وقدراتها على التأثير في القراء من خلال التركيز على الكتاب/النص، ونوعيته، وأفق الانتظار، ونوعية القارئ وقراءته...، وبذلك يكون التلقي مؤشرا »على أنواع التفضيل وضروب الميول التي تظهر استعداد القارئ»[46]، أو على أنواع الإخفاق وضروب النفور التي تظهر استهجانه ونفوره.
1.2. أي قارئ لأي كتابة لسانية تمهيدية؟
نعتبر قارئ الكتابة اللسانية التمهيدية قارئا ضمنيا بالمعنى الذي حدده أمبرتو إيكو (Umberto Eco) لهذا القارئ، فهو موجود بالنسبة إليه داخل النص، وعلى الباحث أن يستخرجه منه. وهو بالنسبة إلى فولفغانغ إيزر(Wolfgang Iser) ليس شخصا خياليا مدرجا داخل النص، ولكنه دور مكتوب في كل نص. وعلى هذا الأساس يعنى نقد استجابة القارئ، كما يقدمه إيزر، بما يحدثه النص في أذهان المتلقين.
إن تحديد طبيعة القارئ المتلقي بالنسبة إلى الكتابة اللسانية التمهيدية «سواء من حيث نوعية ثقافته العامة، أو من حيث مستواه المعرفي في مجال البحث اللغوي، يلعب (...) دورا كبيرا في مدى تحقيق المهمة الملقاة على هذا الضرب من الكتابة والمتمثلة في تيسير المعرفة وتقريبها من ذهن القارئ العربي، سواء كان قارئا عاديا أم له معرفة نسبية باللسانيات. فلكل كتاب كما نعرف جمهور معين من القراء، وبدون تحديد لطبيعة الجمهور القارئ من حيث مستواه ووعيه لا نتصور أن عملية التأليف ستكون مجدية»[47].
ورغم نجاح بعض المؤلفات اللسانية التمهيدية في تحديد قارئها، فإن الملاحظ أن مؤلفات كثيرة أخرى لم تهتد إلى تحديد صائب ودقيق لهذا القارئ، حتى وإن كانت مؤلفات تمهيدية تبسيطية. هذا ما نقرأه مثلا، في مقدمة كتاب علم اللسان: «لا أستطيع أن أتكهن من يكون قارئي الآن، ولا أستطيع أن أخمن أية عينين تتابعان الآن حروف كتابي هذا وكلماته وأسطره، ولا أدري في أية يد وقع، أهي يد يافع يتوق للمعرفة، ويتحرق لها، أم يد شاب بدأ يحدد موقعه في حياة مجتمعنا، أم أنها يد كهل اعتاد على موقف محدد من كل جديد أو قديم؟»[48]. فهل محتوى الكتاب بكل هذا التعقيد وهذا الغموض؟ وهل حجم الكتاب بهذه الضخامة التي تحجب وضوح الرؤية؟
2.2. الكتابة اللسانية التمهيدية وأفق انتظار المتلقي
تلتزم الكتابة اللسانية التمهيدية بالجانب التعليمي التبسيطي، وبإعطاء القارئ المبتدئ المفاتيح التي تمكنه من فك مستغلقات اللسانيات، وتمكينه من مبادئها، وهذا ما تنطق به عناوينها وخطاب مقدماتها كما رأينا. غير أن ما يعبر عنه متن بعض هذه الكتابات يبقى، في غالبيته، مغايرا بل مناقضا لتلك الأهداف المعلنة، وهذا يخلق فجوة بين ما يحفز المتلقي على القراءة وبين ما يقرأه فعلا، مما يشوش على أفق انتظاره. فأغلب المؤلفات اللسانية التمهيدية لم تحرص على انسجام عناوينها وخطاب مقدماتها مع متونها، بحيث لا تفي أغلب المتون بما جاء في المقدمات، التي تجعل من كل ما تزخر به، من آراء وأفكار، ومشاريع نظرية، وهمًا. فيلفي القارئ نفسه غير مشدود إلى ما يقرأ مما يوجه القراءة نحو أهداف غير معلنة فيتحول ذلك إلى إشكالات للتلقي.
وبالنظر إلى التعريفات التي تقدمها الكتابة اللسانية التمهيدية نلاحظ اختلافا واضحا في تصورها لمستوى القارئ المبتدئ، كما نجد اختلافا في منطلقاتها النظرية والمنهجية، ويلاحظ بهذا الخصوص طغيان الاتجاه الوصفي على غيره من الاتجاهات الأخرى، إذ نكاد نعدم تعريفات للغة من وجهة نظر توليدية مثلا. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى المكانة التي حظيت بها اللسانيات الوصفية خلال فترة من الفترات، فطال هذا التأثير مجالات البحث اللغوي، كما طال مجالات أخرى، (الأدب والفلسفة...). كما يمكن أن يعزى ذلك إلى حداثة الاتجاهات اللسانية الأخرى في ثقافتنا، وإن كان من غير المقبول أن نتحدث اليوم عن هذه الحداثة ما دامت اللسانيات التوليدية قد رسخت أقدامها، وإليها توكل مهمة قيادة البحث اللساني المعاصر.
ويلاحظ من تتبعنا للكتابة اللسانية التمهيدية أن الاتجاه البنيوي لم يستأثر باهتمام المؤلفات ذات الصلة بعلم اللغة العام فقط، بل طال أيضا بعض القطاعات اللسانية الأخرى، كعلم الدلالة؛ إذ إن بعض المؤلفات التي تروم تقريب هذا الاتجاه من القارئ العربي، تكتفي بما يدخل في علم الدلالة البنيوي، يظهر ذلك في كتاب (علم الدلالة) لأحمد مختار عمر، الذي لم يسع إلى تطوير كتابه وفق آخر مستجدات النظريات الدلالية، رغم أن الكتاب طبع عدة مرات. ويعلل المؤلف أسباب ذلك بقوله: »القضايا المطروحة في علم الدلالة ليست مما يمكن الإلمام به، أو عرضه في كتاب واحد، وبخاصة منذ تداخلت مناهجه مع مناهج النحو، بعد مقالة Katz وFodor الرائدة عام (1963م)، التي قادت إلى دمج الفرعين داخل إطار القواعد التحويلية، وتوسعت اهتمامات هذا العلم لتشمل التراكيب وتحليل الجمل ببيان علاقات كلماتها بعضها ببعض، وإظهار كيفية ارتباط الجمل منطقيا بالجمل الأخرى« [49].
لقد انتبه المؤلف إلى هذا النقص، غير أنه حاول تجاوزه بالالتزام بإصدار مؤلف مكمل لما جاء في كتابه، يقول: »رأيت أن أركز، في هذا الكتاب، على الجانب الأول من الدراسة الدلالية، وهو المعاني المعجمية، مع بعض إشارات سريعة إلى الجانب الآخر حين يكون ذلك ضروريا، مؤجلا المعالجة التفصيلية إلى كتاب مستقل، أرجو أن أفرغ من مادته قريبا«[50]؛ وهو وعد مر عليه حين من الدهر، ومع ذلك لا نعرف إلى حدود اليوم مؤلفا في علم الدلالة يكمل هذا المؤلف، وهذا يعني تحلل الكثير من المؤلفين من مسؤولياتهم تجاه القراء، وذلك لا يخرج عن عوائق التلقي.
3.2. الإشكال الموضوعي:
يلاحظ قارئ الكتابة اللسانية التمهيدية ارتباكا واضحا في تحديد موضوع الدرس اللساني تحديدا دقيقا، فقد أشرنا آنفا إلى التحديد الذي يعطيه عبد الصبور شاهين لعلم اللغة والمواضيع التي يدرجها تحته، غير أن ما أدرجه المؤلف تحت اسم"علم اللغة" و"علم اللغة العام"، يحتاج إلى وقفة مطولة لإزالة ما تحمله مثل هذه التحديدات من غموض وخلط. هل تندرج الفيلولوجيا وعلم اللهجات وأسماء الأعلام وأسماء البلدان وعلم الاشتقاق التاريخي تحت مصطلح linguistique؟ إنها علوم لغوية مساعدة للسانيات، ولكنها ليست بأي حال من الأحوال من اللسانيات العامة، وهذا -على الأقل- منذ أن أصبحت اللسانيات إطارا لغويا مستقلا عن غيره من المعارف اللغوية في بداية هذا القرن[51].
من المواضيع التي يناقشها المؤلف أيضا:«النظريات المختلفة في أصل اللغة« [52]، و»الصراع اللغوي« و»اللغة المشتركة»[53]، و»مقياس الصواب والخطأ في اللغة»[54]و»القرآن والعربية«[55]، و»أزمة اللغة المعاصرة»[56]، و»جذور الدعوة إلى العامية« [57]. فهل كل هذه القضايا من علم اللغة (اللسانيات) فعلا؟
ويحدد مؤلف آخر موضوع علم اللسانيات بأنه كل: »أشكال اللغة وألوانها وتغيراتها وتطوراتها وتركز اهتمامها على كل ما يرتبط بموهبة الكلام التي تميز الإنسان عمن سواه. هذه الموهبة التي تمكن الإنسان من نقل أفكاره باستخدامه أصواتا معينة. يحاول اللسانيون فهم هذه الموهبة المكتسبة والطريقة التي وضع بها لغتهم. إنهم يريدون فهم القوانين التي تخضع لها ولادة اللغة وحياتها وموتها. ويهتم اللسانيون -إلى جانب اللغات الحية- باللغات الميتة التي لا تتكلم بها أية جماعة بشرية»[58].
إن القضايا التي يعرض لها المؤلف ويعتبرها في صميم علم اللغة ليست واضحة بما فيه الكفاية، وما أوقعه في هذا الخطل هو عدم تمييزه بين ما يدخل في إطار البحث الفيلولوجي، وما يدخل في إطار البحث اللساني، وهذا ما يتأكد من تحديده الغرائبي والكرنفالي لمهمة اللساني. يقول: »وسنجد اليوم بين علماء اللسان رحالة وكشافين يقطعون المسافات الشاسعة حاملين حقائبهم وخيامهم على ظهورهم ليدرسوا لغات ولهجات قبائل وشعوب تعيش على خط الاستواء، أو تقطن غابات الأمازون، أو تسكن في سيبيريا والمناطق القطبية، أو على قمم جبال بامير. وينتقل هؤلاء اللسانيون بالطائرة أحيانا، وعلى الجمال أحيانا أخرى، بالزوارق طورا وعلى الزحافات التي تجرها الكلاب طورا آخر، نراهم يتسلقون الجبال كما يفعل الأبطال الأولمبيون متوجهين نحو هدف محدد لهم، إلى تجمع بشري ناء حيث لا يزال يعيش حتى يومنا هذا من يتكلم بلغة كانت ذات يوم واسعة الانتشار« [59]. فهل يدخل هذا ضمن اختصاصات اللسانيين؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!!!
لم تخرج باقي مواضيع الكتاب نفسه عن مثل هذه التحديدات، التي يحاول المؤلف من خلالها تقديم علم اللغة للقارئ، حيث يعرض لمواضيع من قبيل »هل للحيوان لغة؟»[60]، و»ما هي نظريات المعلومات؟»[61]، و»لغة الإذاعة ولغة الكتابة«[62].
إن هذه المحاور بعيدة عن البحث اللساني في ثوبه الجديد، على الأقل، ولذلك فهي ليست ضرورية بالنسبة إلى كتاب تمهيدي الغرض منه تقديم مبادئ اللسانيات إلى القارئ المبتدئ، وهو الهدف الأساس الذي لأجله ألف الكتاب: »إن بي رغبة عارمة لأن ألفت اهتمام قارئي إلى علم جديد ما يزال في ريعان الشباب، هو علم اللسان "أو اللسانيات أو الألسنية"، عله يجد ما يفيده فيستفيد ويفيد، ويحبه كما أحببته أنا، أو علني أحول دون أن يتخذ منه موقفا لا مباليا. وكلي أمل أن تثير كلماتي اهتمام بعضهم فيتابعوه أو يتخصصوا به« [63].
إن ما جاء في محتويات الكتاب يجعل أمل المؤلف صعب التحقق، بالنظر إلى الكيفية التي عرض بها اللسانيات، والتي توقع القارئ في الكثير من اللبس يصعب معه فهم اللسانيات في معناها العام والبسيط، بله التخصص فيها.
ونجد من مؤلفي اللسانيات التمهيدية من يجعل موضوع علم اللغة هو »البحث في نشأة اللغة الإنسانية (...) علاقة اللغة بالمجتمع الإنساني والنفس البشرية (...)، وآخر مجالات هذا العلم هو حياة اللغة وتطورها (...)، وكذلك البحث في صراع اللغات وانقسامها إلى لهجات، وصراع اللهجات مع بعضها، وتكون اللغات المشتركة« [64].
أما محمود فهمي حجازي فيحصر مجالات علم اللغة في دراسة: » بنية اللغة من الجوانب التالية:
1. الأصوات: Phonetics. Phonology
2. بناء الكلمة: Morphology
3. بناء الجملة: Syntax
4. الدلالة: « Semantics[65].
ومما جاء في هذا الكتاب أيضا الحديث عن »الأسرة اللغوية الأفروأسيوية«، و»فروع اللغات السامية وخصائصها المشتركة«، كما يعرض لفروع لغوية أخرى كـ»اللغة المصرية القديمة واللغة الكوشية«، و»اللغات التشادية«، و»اللغات الهندية الأوربية«، و»الأورالية الألتائية«، و»اللغات الإفريقية«، وأسرات لغوية أخرى في آسيا والمحيطات والعالم الجديد بما في ذلك لغة الهنود الحمر[66].
وقد تضمن كتاب محاضرات في علم اللغة الحديث فصلا خصصه المؤلف لعرض قضايا وإشكالات المصطلح اللساني في الثقافة العربية الحديثة ناسيا، أو متناسيا، أن كتابه تمهيدي وليس هناك داع لشحن القارئ بمثل هذه الإشكالات التي قد تصرفه عن الهدف العام الذي لأجله أقبل على قراءة الكتاب، فقضايا وإشكالات المصطلح اللساني تبقى من القضايا الشائكة في اللسانيات العربية، إلى يومنا هذا.
بمثل هذا الخلط والارتباك في تحديد موضوع اللسانيات تواجهنا أغلب الكتابات اللسانية التمهيدية. ولا شك أن لهذا الوضع أسبابه، ويمكن أن نذكر منها: غياب تقنيات البحث اللساني، والكسل المعرفي الذي يحول دون مواكبة بعض الباحثين للمستجدات اللسانية...
إن الغاية التعليمية التي تصدح بها أغلب الكتابات اللسانية التمهيدية تغيب بشكل ملحوظ عن جل هذه الكتابات، وهو غياب يمكن أن يعزى إلى جهل واضح بالمقصود من هذه الغاية، مما يعمق إشكالات التلقي ويزيدها تعقيدا.
4.2. إشكالية التأصيل
تعمد بعض المؤلفات اللسانية التمهيدية بدافع التأصيل إلى المقارنة بين التراث اللغوي العربي ومبادئ الدرس اللساني الحديث، وهي مقارنة لا تخلو من تعسف وإفراط في التأويل.
إن التأصيل الذي تتحدث عنه مثل هذه المقارنات يقوم على تجاهل الأصول الإبستيمولوجية لكل علم، والتي من المفروض أن ترتكز عليها القراءة. فهل من المقبول أن نكلف القارئ المبتدئ عناء الدخول في مثل هذه المقارنات، ونشحنه بمقاربات مبنية على تأويلات هدفها إثبات التقاطع بين خطابين مختلفين، بل متباعدين زمنا ومكانا ومنطلقا ومنهجا وغاية؟
إن مقارنة من هذا القبيل تخطئ هدفها لاعتبارين اثنين على الأقل:
+ إما أن يكون متلقيها ملما بالتراث اللغوي، وفي هذه الحال لن يجد داعيا للرجوع إلى اللسانيات أو تعميق معرفته بها، لأن هذا النوع من المقارنة يجعله يعتقد أن مبادئ اللسانيات هي ما حفظه وعرفه من مبادئ تراثه اللغوي، كما توحي بذلك هذه المقارنات.
+ وإما أن يكون قارئا جاهلا بالتراث اللغوي فيجد في التطابق الوهمي الذي تحاول أن تثبته هذه الكتابات سببا كافيا لقطع كل أشكال التواصل مع تراثه اللغوي، لأن اللسانيات -كما تقدم له- تكفيه هم الرجوع إلى المصنفات النحوية.
وفي كلتا الحالتين، فإن الكاتب يخطئ الهدفين، فلا هو أثبت مكانة التراث اللغوي ولا هو أثبت أهمية اللسانيات.
ويزداد الأمر استشكالا حين تتجاوز المقارنة حدود الفهم والإفهام وتروم أهدافا أخرى؛ حيث يتحول الكتاب إلى عرض لمبادئ اللسانيات من أجل نبذها وتجاوزها، وتركيز سلطة القديم وتأكيدها، وهذا ما يتوق إليه مؤلف أحد الكتب التمهيدية؛ الذي حاول أن يبين »كيف أن علماءنا الأجلاء القدامى-إبان نهضتهم- أولوا تلك الأبحاث اللغوية جهودا فائقة، خدمة للغة الضاد، التي هي وعاء مقدساتنا، وعلى أسس سليمة في جملتها، وعلى قدر وسعهم وإمكاناتهم. إن أبحاث العلماء العرب القدامى كانت النبراس الذي أمه الغرب -حين نهضته حديثا- بما أوصله الغاية، وساعده على الرقي... فإذا ما غض الطرف بعدئذ بعض علمائهم على ما صنع علماؤنا... فمرجعه جهل مبين، أو حقد دفين»[67].
عندما يطالع القارئ المبتدئ مثل هذا النص سيتبادر إلى ذهنه، منذ الوهلة الأولى، وجود صراع وتناقض صارخين بين اللسانيات والتراث اللغوي العربي، وما أكثر مثل هذه الإشارات في الكتابة اللسانية التمهيدية التي تنحرف عن غايتها التعليمية لتنساق وراء قضايا وإشكالات تفتح أفق انتظار المتلقي على جوانب من الصراع الوهمي بين اللسانيات والتراث اللغوي، وهذا ما يسيء إلى الفهم والتلقي بوجه عام.
في إطار الإشكال المنهجي دائما لاحظنا خلال حديثنا عن الوظيفة المرجعية للكتابة اللسانية التمهيدية الأهمية التي يكتسبها الإعلان عن مصادر الكتاب (وما يلقاه من ثناء)، غير أن التعامل مع المصادر والمراجع لا يتم دائما بطريقة علمية مضبوطة. فبعض اللسانيين يشيرون إلى مصادرهم ومراجعهم بطريقة مجملة، سواء أكانت عربية أم غربية، قديمة أم حديثة، ولا يكلفون أنفسهم عناء الإحالة على تلك المراجع والمصادر في متن الدراسة بالطريقة المعمول بها علميا. لاحظنا ذلك عند غير واحد من مؤلفي الكتب اللسانية التمهيدية. يقول توفيق محمد شاهين: »استفدت في هذا الفصل، من عدة مراجع، سأذكرها مجملة، وقد لجأت إلى هذه الطريقة -هنا- بإغفال ذكر المرجع والصفحة لكل اقتباس لأنها كثيرة أولا، ومتفقة أحيانا ثانيا، وخشية تضم*الحاشية وكثرة الأرقام والأقواس ثالثا، بلا داع، فليرجع إليها من شاء مزيدا من الفائدة»[68].
والرأي نفسه نجده عند عصام نور الدين الذي يعتبر »العزو إلى المصادر والمراجع لا يقدم في هذا البحث جديدا... لكنه قد يرهق القارئ في هوامش هو بغنى عنها، ما دمنا قد قدمنا له لائحة تكاد تكون كاملة بمصادر بحثنا ومراجعه، ويستطيع العودة إليها متى شاء... ولنا في ذلك أسوة حسنة ببعض كبار العلماء من عرب وأجانب« [69].
فهل الإحالة على مراجع البحث ومصادره يرهق القارئ فعلا؟ وهل من المعقول أن يسير على خطى العلماء الكبار وكتابه موجه لقارئ يصعب عليه قراءة كتاب تمهيدي؟
ومما يعمق هذا الإشكال أكثر أن المصادر والمراجع التي يحيل عليها كل كتاب من الكتابين السابقين متنوعة، ولا شك أن ما سيرهق القارئ هو التمييز في تلك الكتب بين آراء المؤلف وآراء القدماء وآراء المحدثين.
5.2. الإشكال المنهجي ولعبة الإقصاء
تنهض أغلب المؤلفات اللسانية التمهيدية التي بين أيدينا على مبدإ نفي بعضها البعض بأسلوب ذكي ومتأدب، يعمد فيه المؤلف إلى الإشادة بكتابه ليضمن له حظا وافرا من القبول والاستحسان عند جمهور واسع من المتلقين. ولا يكتفي مؤلفو أغلب المؤلفات اللسانية التمهيدية بذكر محاسن مؤلفاتهم، بل يتصدون للكتب الأخرى بالنقد-إن صح أن نسمي هذا نقدا- والكشف عن عيوبها ليقدموا بعد ذلك مؤلفاتهم باعتبارها بديلا علميا موضوعيا. وكثيرا ما يطال الإقصاء البحث اللساني في ثقافتنا برمته، يقول علي عبد الواحد وافي:»موضوعات علم اللغة هي موضوع عناية عدد كبير من الأعلام الباحثين في أمم الغرب (...) وعلى الرغم من ذلك لم يكتب فيه باللغة العربية مؤلف يعتد به»[70].
وغير بعيد عن هذا الرأي نقرأ في مؤلف تمهيدي آخر: »أقدم للقارئ العربي هذا المؤلف الذي يفتح سلسلة من الدراسات اللغوية، وهي سلسلة أقصد من ورائها سد الفراغ الخطير الذي يشتكي منه علم اللغة في عالمنا العربي« [71].
وإذا كان ما يشير إليه علي عبد الواحد وافي مقبولا بالنظر إلى كونه ألف في مرحلة جد متقدمة من مراحل التأليف اللساني في الثقافة العربية، وتحديدا إلى سنة 1941م، فإنه لا مسوغ لحديث الراجحي عن فراغ خطير في الكتابات اللسانية العربية المتأخرة.
إن هذه الإشارات إلى ضعف البحث اللساني، وإلى غياب مؤلفات لسانية يعتد بها في الثقافة العربية، هي إشارات ضمنية إلى أن مؤلف الكاتب يتجاوز الدراسات السابقة، ويتدارك أخطاءها وهفواتها، ويطرح نفسه بديلا موضوعيا عنها.
ويتخذ النفي والإقصاء شكلا آخر حين يلجأ الكاتب إلى إغداق كل أشكال المدح والثناء على مؤلفه ومنهجه في البحث، مع الاستغراق في مدح الذات، يقول مؤلف (علم الأصوات اللغوية): »منهج البحث الذي يميز كتابنا هذا من الكتب التي سبقته هو منهج وصفي حواري، ونظن أننا لم نسبق إلى مثل هذا المنهج، في هذا المجال من قبل... لأننا نرى أن المعلومات الصوتية مطروحة في الكتب التي ذكرناها، ويستطيع كل من حصل قدرا من الدربة على القراءة والكتابة أن يعود إليها... ولأننا نفتقر، في الوطن العربي، وفي جامعاتنا العربية، إلى المعامل الصوتية والمختبرات... فلم يبق أمامنا إلا الأسلوب العلمي الذي نخرج فيه المعلومات التي نريد« [72].
وهذا أيضا رأي مؤلف كتاب (علم الدلالة) أحمد مختار عمر الذي يقول: »ورغم كثرة ما كتب ويكتب بغير العربية في "علم الدلالة" ومناهج دراسة المعنى من وجهة النظر اللغوية، فالمكتبة العربية فقيرة أشد الفقر في هذا النوع من الدراسات، فمنذ أن صدر كتاب المرحوم إبراهيم أنيس "دلالة الألفاظ" (عام 1958) حتى الآن لم تقدم للقارئ العربي أي دراسة علمية للمعنى بمفهومه اللغوي، تستفيد مما جد من نظريات، وما قدم من أبحاث، وما ظهر من نتائج. ولا يغني في هذا المقام كتاب الدكتور كمال بشر "دور الكلمة في اللغة"، والدكتور مراد كامل "دلالة الألفاظ العربية وتطورها"(1963)، فأولها ترجمة لكتاب صدر في فترة مبكرة من تاريخ العلم (1951) والثاني يعالج زاوية واحدة من زوايا العلم الكثيرة« [73].
هذا هو الطابع العام الذي يميز الكتابة اللسانية التمهيدية، والحال أن ما تقوم عليه هذه الكتابة من نفي وإقصاء، كان بالإمكان أن يستغل بشكل إيجابي ليسهم في تطوير الكتابة اللسانية بالتركيز على ما جد في مجال البحث اللساني فيكون التجاوز مشروعا والنفي مقبولا، أما أن يكون الكتاب من قبيل المعاد المكرور ففي ذلك قتل للبحث اللساني. والأكيد أن كل مؤلف يبقى محكوما بالزمانية اللسانية والسياق التاريخي للقراءة، وهذا يجعله جديدا في مرحلة من المراحل، لكنه سرعان ما يصبح متجاوزا بالضرورة في مرحلة أخرى، وهذا أمر محتوم، وهي المسألة التي يجب أن يركز عليها كل باحث فتكون نقطة بدايته هي النقطة التي انتهى منها الآخرون، حتى لا تضيع الجهود وتكون كل بداية لدينا هي بداية البداية.
ولا شك أن أفق انتظار القارئ المبتدئ الذي يتلقى هذا النوع من الكتابة سيخيب؛ وتخييب أفق انتظار القارئ هنا لا يؤدي وظيفة جمالية، كما تنص على ذلك مبادئ نظرية التلقي، بل يؤدي وظيفة إبعادية. فإذا كان هذا حال الكتابة اللسانية التمهيدية فالأكيد أن الكتابة المتخصصة، في نظر هذا القارئ، ستكون أدهى وأمر، وهذا يدعو إلى الابتعاد والنفور والتقزز من اللسانيات، وقطع كل خيوط التواصل معها. فتكون الكتب اللسانية التمهيدية وسيلة للتنفير والترهيب فتنزاح عن وظيفتها الأساس التي تدعو إلى التحفيز والترغيب.
بهذه الطريقة تقدم الكتابة اللسانية التمهيدية اللسانيات إلى القارئ العربي؛ وقد تبينا من تتبعنا لبعض تلك المؤلفات الحضور اللافت للوظيفة الانفعالية/ التأثيرية/الإغرائية التي هدفها التأثير في المتلقي وإقناعه بتصوراتها، وبأنها بدائل علمية موضوعية، فطغى هذا الجانب على الجوانب الأخرى، وتحول، في أحيان كثيرة، إلى هاجس يجعل أغلب الكتابات اللسانية التمهيدية لا تلتزم بتعهداتها مع قرائها، فما تصرح به عناوينها ومقدماتها شيء، وما تقدمه محتوياتها يبقى شيئا آخر. وهذا يفسر إشكالات البحث اللساني، ويجعلها نتيجة حتمية لهذا الارتباك الذي يغذي الإشكالات السابقة، فحتى وإن استطاع القارئ أحيانا التخلص من الضغوطات والإكراهات التي تفرضها البنية الفكرية التي ينتمي إليها، فإنه يصدم بهذه العوائق مما يجعل التلقي مستعصيا أكثر؛ لأن من »قدموا هذا الوافد الجديد للعرب المحدثين لم يقدموه في صورته الحقيقية من ناحية هدفه، قدموه كعلم جديد وهو ليس علما جديدا، إنما هو مناهج جديدة. وفي حالات أخرى قدموا النتائج ولم يقدموا المقدمات، وكانت صورة التقديم هذه سببا في إعراض الموروث القديم عن هضم الموروث الجديد، وكانت صورة التقديم تزداد سوءا كلما تعددت العناوين واختلفت»[74].
نقول هذا دون أن ننكر وجود كتابة لسانية تمهيدية نجح أصحابها في خلق تواصل صحيح مع القراء[75].
[1]-G.Génétte, Introduction à l’Architexte, p9.
[2]-Ch, Grivel, Production de l’Intérêt Romanesque, p166.
[3]- Ibid, p169.
[4]- عبد الرحمان طنكول، خطاب الكتابة وكتابة الخطاب في رواية مجنون الألم، ص35.
[5]- محمد فكري الجزار، العنوان وسيميوطيقا الاتصال الأدبي، ص19.
[6] - جميل حمداوي، السيميوطيقا والعنونة، ص106.
[7]- المرجع السابق، ص170.
[8]- ابن منظور، لسان العرب، دار صادر بيروت، مادة (قدم).
[9]- R,Jakobson, Essais de Linguistique Générale, Traduit de l’anglais et préface par Nicolas Ruwet, p 2.
[10]- محمد مفتاح، دينامية النص، ص 72.
[11]- Introduction à l’architexte, op,cit, p9
[12]- جميل حمداوي، السيميوطيقا والعنونة، ص106.
[13]- محمد بنيس، التقليدية، ص107.
[14]- لن نكتفي هنا بمقدمات الكتب التمهيدية المكتوبة بالعربية، بل سنركز أيضا على مقدمات بعض الكتب اللسانية التمهيدية المترجمة إلى العربية. فهدف هذه الكتب وغاياتها تعليمية بالأساس، ومن ثمة فخطاب المقدمات للمترجم (أو المترجمين) يتقاطع في غاياته ومراميه مع خطاب المقدمات للكتب المؤلفة بالعربية.
[15]- عبد السلام المسدي، اللسانيات من خلال النصوص، ص6.
[16]- التهامي الراجي، توطئة في علم اللغة، ص5.
[17]- محمود فهمي حجازي، مدخل إلى علم اللغة، ص7.
[18]- عبد العزيز حليلي، اللسانيات العامة واللسانيات العربية، ص3.
[19]- ميشال زكريا، الألسنية (علم اللغة الحديث) المبادئ والأعلام، ص 16.
[20]- إدريس السغروشني، مدخل للصواتة التوليدية، ص1.
[21]- مبارك حنون، دروس في السيميائيات، ص5.
[22]- د، بيتر، ب، وآخرون، المنظومة الكلامية، ترجمة محيى الدين حميدي، ص13.
[23]- مارسيلو داسكال، الاتجاهات السيميولوجية المعاصرة، ترجمة جماعية، ص11.
[24]- هذه العبارات مستوحاة من المؤلفات المذكورة آنفا.
[25]- مبارك حنون، مدخل للسانيات سوسير، ص5.
[26]- عبد الصبور شاهين، في علم اللغة العام، ص3.
[27]- ابن رشد المعتمد ومحمد خريص، مدارس علم اللغات، ص3.
[28]- جون ليونز، نظرية تشومسكي اللغوية، ترجمة وتعليق حلمي خليل، ص7.
[29]- نعام تشومسكي، اللغة ومشكلات المعرفة، ترجمة حمزة بن قبلان المزيني، ص5.
[30]- رولان بارث، مبادئ في علم الأدلة، ص 6.
[31]- علي عبد الواحد وافي، علم اللغة، مقدمة الطبعة الأولى.
[32]- البدراوي زهران، مقدمة في علوم اللغة، ص5.
[33]- رضوان القضماني، علم اللسان، ص11.
[34]- عبد الصبور شاهين، في علم اللغة العام، ص7.
[35]- سامي عياد حنا وشرف الدين الراجحي، مبادئ علم اللسانيات الحديث، ص5.
[36]- محمد قدور، مبادئ اللسانيات، ص6.
[37]- سامي عياد حنا وشرف الدين الراجحي، مبادئ علم اللسانيات الحديث، ص 6.
[38]- التهامي الراجي، توطئة في علم اللغة، ص5.
[39]- محمود فهمي حجازي، مدخل إلى علم اللغة، ص7.
[40]- ينظر الفصل الموالي.
[41]- مصطفى غلفان، اللسانيات العربية الحديثة، ص65.
[42]- سامي عياد حنا وشرف الدين الراجحي، علم اللسانيات الحديث، ص8.
[43]- أحمد محمد قدور، مبادئ اللسانيات، ص8.
[44]- عصام نور الدين، علم الأصوات اللغوية، الفونيتيكا، ص14.
[45]- فولفغانغ إيزر، نقد استجابة القارئ، ترجمة أحمد بوحسن ومراجعة محمد مفتاح، ضمن، من قضايا التلقي والتأويل، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، ص211.
[46]- نفسه، ص211.
[47]- مصطفى غلفان، اللسانيات العربية الحديثة، ص101.
[48]- رضوان القضماني، علم اللسان، ص5.
[49]- أحمد مختار عمر، علم الدلالة، ص6.
[50]- المرجع السابق، ص7.
[51]- مصطفى غلفان، اللسانيات العربية الحديثة، ص110.
[52]- عبد الصبور شاهين، في علم اللغة العام، ص29.
[53]- نفسه، ص211.
[54]- نفسه، ص231.
[55]- نفسه، ص241.
[56]- المرجع السابق، ص 255.
[57]- نفسه، ص26.
[58] - رضوان القضماني، علم اللسان، ص11.
[59]- نفسه، ص 15.
[60]- المرجع السابق، ص27.
[61]- نفسه، ص37.
[62]- نفسه، ص117.
[63]- نفسه، ص5.
[64]- رمضان عبد التواب، المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث فيه، ص10-11.
[65]- محمود فهمي حجازي، مدخل إلى علم اللغة، ص18.
[66]- نفسه ص ص، 82-186.
[67]-عبد الصبور شاهين، في علم اللغة العام، ص10.
* - هكذا وردت في الأصل، ولعل "تضخم" كما يفهم من السياق.
[68]- توفيق محمد شاهين، في علم اللغة العام، ص48.
[69]- عصام نور الدين، علم الأصوات اللغوية، الفونيتيكا، ص11.
[70]- علي عبد الواحد وافي، علم اللغة، مقدمة الطبعة الأولى.
[71]- التهامي الراجي، توطئة في علم اللغة، ص3.
[72]- عصام نور الدين، علم الأصوات اللغوية، الفونيتيكا، ص13.
[73]- أحمد مختار عمر، علم الدلالة، ص6.
[74]- لطيفة حليم، الاتجاه البراجماتي، ص243.
[75]- تعمدنا عدم الإشارة إلى بعض العناوين تفاديا لأي سوء فهم. وعموما يمكن أن نرجع نجاح بعض الكتب اللسانية التمهيدية في تقديم اللسانيات إلى القارئ العربي على الوجه الصحيح إلى مجموعة من الأسباب لعل أهمها:
- مراعاتها لمستوى القارئ المستهدف؛ ولذلك لم تحشره في قضايا هو في غنى عنها كما لا حظنا في مؤلفات تمهيدية سابقة
- تركيزها على القضايا الأساسية التي من شأنها أن تساعد القارئ على الفهم.
- الإكثار من الأمثلة التوضيحية والجمل التي تقدم المحتوى بالشكل المطلوب
- أن بعض هذه الكتب تذيل كل فصل بمجموعة من الأمثلة التي تختبر فهم القارئ لما يقرأ، وهذا منهج في التأليف نجده في معظم الكتابات اللسانية الغربية التي تستهدف الفئة نفسها.

0 التعليقات:

إرسال تعليق